عناصر الخطبة
- الشح من الصفات الذميمة التي ذمها الله ﷻ في القرآن الكريم.
- الشح يمنع الإنسان من التمتع بنعم الله ﷻ، ويحرمه من السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.
- على المسلم أن يتخلى عن الشح، ويتعلم الكرم.
- الكرم من صفات الأنبياء والصالحين، وهو من أبواب الجنة.
- الكرم ينشر المحبة والسعادة في المجتمع، ويقرب الناس من بعضهم البعض.
الخطبة الأولى
إن الله ﷻ كريم يحب الكرم، ومن كرمه على عباده أنه وجههم الى كل خير في دينهم ودنياهم وآخرتهم، ونهاهم عن كل شر وعن كل ما من شأنه أن ينقص من أجورهم كالبخل والشح قال الله ﷻ: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الحشر: 9
فالشح في هذه الآية ليس مقصوراً على منع إعطاء المال والبخل بل هو أعم من ذلك، جاء رجل الى ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: أسمع الله ﷻ يقول: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، قال: ليس ذاك بالشحّ الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ذلك البخل، وبئس الشيء البخل فالشح خلق ذميم لا يرضاه الله ورسوله ﷺ، ولا يحبه المؤمنون ومن برأ من الشح فقد فاز فوزاً عظيماً، وكان من المفلحين.
والحق أن ﴿الشح﴾ كلمة لا ترضاها النفوس الأبية، لما للشح من آثار سلبية على النفس المؤمنة وعلى الفرد والمجتمع؛ لأن من آثاره الممقوتة تفكك النسيج المجتمعي، ونشر كراهية الفقير لكل شحيح حتى لو كان من أقرب الناس إليه نسباً.
لقد مدح الله ﷻ الذين يهذبون النفس الأمارة في قوله: ﴿قد أفلح من زكاها﴾ الشمس: 9، وذم الذين لم يهذبوها في قوله: ﴿وقد خاب من دسّاها﴾ الشمس: 10، فمن تزكى فقد أفلح وفاز قال ﷻ: ﴿قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى﴾ الأعلى: 14–15، ولذلك وجب على العبد أن يداوم على تهذيب نفسه ليجنبها مهاوى الردى ويحفظها من الشح والبخل ليصبح قريباً من الله ﷻ وقريباً من الناس ومِمَّا جاء في التَّرْهِيبِ مِنَ الشُّحِّ والبُخْل قال رسول الله ﷺ: «واتَّقوا الشحَّ، فإنَّ الشحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» ← رواه مسلم.
وقال أيضًا: «لاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا» ← رواه النسائي
ويُظهرُ عيبَ المرءِ في النَّاسِ بخلُه
ويسترُه عنهم جميعًا سخاؤُه
تغطَّ بأثوابِ السَّخاءِ فإنَّني
أرى كلَّ عيبٍ والسَّخاءُ غطاؤه
لقد أثنى الله سبحانه على الأنصار بعد ثنائه على المهاجرين في قوله ﷻ: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ الحشر: ٨، ثم عطف الثناء على الأنصار فقال ﷻ: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الحشر: ٩.
فدلت الآية الكريمة على أنهم يختارون المحتاجَ على أنفسهم بما لهم ﴿ويؤثرون على أنفسهم﴾، يفعلون هذا الفعل الطيب على الرغم من فقرهم وحاجتهم ولو كان بهم خصاصة من فقر وحاجة وعوز وضيق ذات اليد، عن أبي هريرة رضي الله عنه: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ وقد أصابه الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئاً، فقال: «ألا رجل يضيف هذا؟» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب به، فقالت امرأته: ما أجد إلا قوت الصبية. قال: نوّمي السبية وقدمي الطعام، ثم قومي، كأنك تصلحين السراج فأطفئيه ليأكل وحده، فإنه ضيف رسول الله ففعلت: فلما أصبح جاء إلى رسول الله فقال: «لقد عجب الله منك» فنزلت ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾.
فهذه الآية القرآنية بينت حالاً من أحوال الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في الكرم والإكرام، والتعاون في طاعة الرحمن.
ثم جاء قوله ﷻ ﴿ومن يوق شح نفسه﴾ ليبين أن من وقى نفسه من الشح وهو البخل مع الحرص، وتحفّظ عن هذه الرذيلة فقد فاز فوزاً عظيماً، ونال الفلاح الكامل في قوله ﷻ ﴿فأولئك هم المفلحون﴾ الفائزون بالثناء من الله سبحانه عاجلاً، والثواب آجلاً، والأنصار داخلون أول دخول في هذه الفضائل العظيمة.
إن ثمرة تخليص النفس من الشح، وتهذيبها من البخل ترفع صاحبها أعلى الدرجات عند رب الأرض والسموات، وهو ما دل عليه قوله ﷻ ﴿فأولئك هم المفلحون﴾، فعلى كل مسلم يرغب نيل الدرجات في الجنات، ورفع المقامات أن يبادر إلى وقاية نفسه من الشح ليكون من المفلحين الكاملين في الدنيا والآخرة، والطريق إلى هذا الفوز المبين أن يخالف العبد النفس الأمارة والشيطان والهوى وبذلك ينتصر على شيطانه وهواه ويصبح ربانياً كالصحابة رضي الله عنهم الذي نالوا أسمى الدرجات في دنياهم وأخراهم لأنهم سلكوا الطريق المستقيم وتجنبوا سبل الشيطان في كل وقت وآن.
عن سعيد بن جُبَير، عن أَبي الهياج الأسدي، قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهمّ قني شحّ نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال. إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل شيئًا، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
وقد أخبر النبي ﷺ أنه في آخر الزمان بنقصان العمل وظهور الشح والفتن، قال ﷺ: «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقَى الشحُّ، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج» ← اخرجه البخاري ومسلم.
فالواجب علينا في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن وعمَّ فيه الشح وفشى فيه البخل بين الناس، أن نتعاون على البر والتقوى وأن نعتصم بحبل الله المتين، لنضل في الدنيا اخوة متحابين، وفي الآخرة على سرر متقابلين.
إن المسلم الذي يقي نفسه من مرض الشح، ويخلصها من هذه الصفة الذميمة يرتقي بنفسه إلى درجة النفس المطمئنة، هذه النفس التي أثنى الله ﷻ عليها في قوله ﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ الفجر: 27–30.
⇐ وهنا أيضًا: خطبة منبرية مكتوبة بعنوان: ولا يجتمع الشح والإيمان
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران: 102.
لا تنسوا الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ﷺ، فعن أُبي بن كعب رضي الله عنه: ﴿أنّ من واظبَ عليها يكفى همه ويُغفر ذنبه﴾، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا».
وصلاة الله على المؤمن تخرجه من الظلمات الى النور، قال ﷻ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ الأحزاب،33: 43.
ومن دعا بدعاء سيدنا يونس عليه السلام: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ استجاب الله له، ومن قالها أربعين مرة فإن كان في مرض فمات منه فهو شهيد وإن برأ برأ وغفر له جميع ذنوبه، ومن قال: «سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر».
ومن قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي».
وعليكم أيضاً بـ«كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن وهما سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» قدر المستطاع.
والحمد لله ربّ العالمين.