الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ولأن الإسلام أقر هذه الحقيقة وقبلها فقد كانت جميع أوامره ونواهيه وتوجيهاته فيما يخص العلاقات الإنسانية عامة وشاملة، فهو لم يترك علاقة انسانية إلا خاطب طرفيها بحسن العشرة وحسن الخلق في التعامل، وقد أهدانا من الآثار التي تبين حقوق العباد على بعضهم وواجباتهم تجاه غيرهم، في الأنماط المختلفة من العلاقات ما يصلح دستورا سماويا جامعا لمعاني المساواة والعدالة والإنسانية في أرقى صورها.
ومع دقة التوجيهات ووضوحها فقد أمرنا أن نعل قيم الفضل وأن نخرج من دائرة الندية والتعامل بالمثل، فيقول جل وعلى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وسنتحدث هنا عن تطبيق مبدأ الفضل والعفو في نوعين من العلاقات، علاقة الرئيس ومرءوسيه في العمل، وعلاقة الزوج بزوجته.
العلاقة في العمل جوهرها الفضل
كل عمل له مقابل من مال أو غيره، ولكن لو دار التعامل بين العاملين في أي مجال وبين أصحاب العمل أو الرؤساء في فلك هذه العبارة، فسيصبح العمل عبئا على أصحابه والأجر عبئا على من يؤديه إلى أصحابه، وبالتالي يقف الناس متصيدين الأخطاء، يتتبعون التقصير ويركزون عليه، فتفسد روح العلاقة وتتجرد من إنسانيتها ويصبح الناس كالآلات، ولكن الإسلام لا يحب للأمة هذا النوع من الجفاء والمادية المجحفة، ومن ثم أوصي كل ذي عمل بإتقان عمله حتى لو لم يكن الأجر على قدر المشقة، وأوصى أصحاب العمل بسعة الصدر والتجاوز عن الزلات الصغيرة، والإحسان في الأجر لكل من هم في سلطتهم وتحت إمرتهم، ومن العجيب أن قليل من التسامح مع قليل من الإحسان في العمل، والتعامل برقي وإنسانية من شأنه أن يعالج أي قصور ويتجاوز أية مشكلات.
العلاقة بين الزوجين ميدان للتسامح
إن الحياة الزوجية نموذج للعلاقات الإنسانية المعقدة، التي تتداخل فيها الرغبات وتتعارض أحيانا المصالح والأهداف والميول، ومن ثم تحدث الصراعات والصدامات التي تعرض بنيان البيت للخطر إذا لم يتم السيطرة والوصول إلى حلول وسطية، مرنة، وقادرة على امتصاص الخلافات، وهنا سوف نسلط الضوء على قاعدة هامة في التعامل بين الزوجين ينبغي أن تتبع وتُراعى حتى تنجح العلاقة وتصل إلى بر الأمان وهو التعامل بالفضل وليس العدل.
بينت الشريعة الإسلامية خطوطا عريضة تحمل الحقوق والواجبات الزوجية التي تترتب على عقد النكاح، ويجب على كل من الزوجين الحرص على أداء ما عليه من واجبات على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، ويوفي الاحتياجات التي تقتضيها تلك العلاقة المقدسة، وبعد ذلك يطالب بحقوقه ويصرح باحتياجاته ويصبح له الحق أن يقبل ما يناسبه ويرفض ما لا يناسبه، بما لا يتعارض مع الشرع أو العرف ولا ينطوي على ظلم أو شطط في استعمال تلك الصلاحية.
هذا ما ينبغي أن يحدث ولكن رغم كل الحرص من الأزواج الصالحين على تقديم أيادي المعروف والخدمة لبعضهما، ورغم حرص الحريصين على أداء ما عليهم على أكمل وجه، فإن النقص يلحقه والتقصير يعتريه، وهنا يأتي مبدأ الفضل الذي يجب أن يفرض نفسه، فما دام أحد الزوجين يبدي حرصا على تقديم أفضل ما لديه للشريك فينبغي على هذا الشريك أن يتغاضى عن التقصير ويتجاوز عن الخطأ، ويتسامح فيما يعجز عنه الطرف الآخر ولا يكلفه مالا طاقة له به، كما يجب أن لا يتعامل بالندية ولا يتصيد الأخطاء ولا يقف عند كل حدث موقف المتهم والجلاد، فلتكن المعاملة بالفضل!
صور من السلوكيات التي يتجلى فيها مبدأ الفضل ويتنحى مبدأ العدل
من الحقوق التي اكدت علبها الشريعة للزوج على زوجته حق الطاعة للزوج، وعدم الامتناع عنه متى رغب في وصل زوجته، وحذرت من ذلك في أكثر من موضع منها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبتْ فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)، ولكن مع ذلك يستحب في حق الرجل أن يكون متسامحا متلطفا إذا أبدت زوجته شعورا بالتعب أو الإرهاق، وينبغي أن يتفهم متاعبها ويقدرها.
يقابل هذا الحق حق الزوجة في انفاق الزوج عليها، والوفاء بمتطلباتها من المأكل والملبس والسكن والعلاج وغيرها من متطلبات الحياة، في حدود طاقته وعلى قدر سعته، وينبغي على المرأة أن تتقبل عذره عند الضرورة، ولا تكلفه فوق ما يطيق ولا تتعنت في طلباتها فقد قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).