بالرغم من أنه متزوج ولديه ثلاثة أبناء، وبالرغم من أن عمره يقترب من العقد الخامس؛ فإنه ما زال يشكو من آثار سطوة والدته عليه في الصغر، وتدميرها لشخصيته في الكبر، فقد كانت أما متسلطة لا تعطيه الفرصة للتعبير عن نفسه أو احتياجاته؛ مما آل به الحال إلى شخص معقد نفسيا لا يستطيع العمل إلا تحت إمرة مدير متسلط.
أما هي فكانت تشكو إحساسها بالضعف أمام زوجها، فبالرغم من حبه الشديد لها، وتعبيره عن حبه لها بشتى الطرق، فإنها دائما تشعر أن هناك شيئا ينقصها، وأنها دائمة الشك في زوجها وفي حبه لها، وتسأله هل تحب أخرى؟ هل أنا كفيلة بحبك؟ هل أنا كافية بالنسبة لك؟
وكان يؤكد لها أنه سعيد معها، ولا يضايقه منها سوى قلة اعتزازها بنفسها، وانعدام ثقتها في نفسها، وأنها في طريقها لخلق تعاستها بيدها، وكان السبب في ذلك هو لغة والدتها القاسية معها، فقد كانت تعيب عليها جسدها السمين، وتقارن بينها وبين أختها النحيلة، وتقول لها: أختك ستجد عريسا بسهولة، أما أنت فلن تتزوجي أبدا، وبالرغم من حدوث العكس وأنها أصبحت سعيدة في حياتها الزوجية بالعكس من أختها فإنها ما زالت تعاني ضعفا في شخصيتها، وقلة شديدة في ثقتها في نفسها.
فهل يعلم الآباء حقا أن بإمكانهم تدمير شخصية أبنائهم في الصغر دون أن يدركوا؟!..
خوف.. قلق.. حيرة
تحكي “منى” أنها بالرغم من تفوقها الدراسي ودخولها الكلية التي كانت تريدها، وبالرغم من جمالها الذي يشهد به كل من حولها، فإنها لا تثق في نفسها أبدا، فهي دائمة السؤال عن رضا من حولها.. فتسأل والدها هل أغضبتك اليوم؟ وتسأل والدتها هل أنا من ضايقك إلى هذا الحد؟ فهي دائمة الشعور بالمسئولية عن غضب وضيق وتعب كل من حولها، ولا تعرف ما السبب في ذلك، وأصبح هذا الموضوع يؤرقها ويتعبها نفسيا جدا، وعندما استشارت أحد الأطباء النفسيين قال لها إن السبب في ذلك هو تعامل والديها معها في الصغر، فغالبا هم أهملوها مما أشعرها بالذنب تجاه نفسها، وأنها المسئولة عن ابتعادهم عنها وعدم احتوائها عاطفيا منذ الصغر.
أما “عفاف” فتقول: كنت أبحث عمن يدعمني في أي مكان أذهب إليه، كنت دائما قلقة ومحتارة ودائمة التفكير وأشعر أن لا أحد يحبني، وعندما ذهبت للجامعة كان هذا الأمر سببا كفيلا للوقوع في الحب مع أول شاب أشعرني بأهميتي، وأنني إنسان مرغوب فيه، لم أكن أفكر جيدا، وهل هذا الشاب يناسبني أم لا؟ المهم أنه أشعرني أنني شخص موجود في الحياة، فبالرغم من أن أبي وأمي يحبونني فإنه كانت هناك دائما مساحة فارغة بداخلي تبحث عمن يدعمها، وبالتأكيد كان الأولى بوالديَّ أن يسدوا هذا الفراغ الذي كبر معي ونتج عنه انهيار ثقتي بنفسي.
ومن جانب آخر تحكي “مها” قائلة: “كانت لدي صديقة منطلقة في الحياة بشكل غريب، شجاعة وقوية ومحترمة وطليقة اللسان، لا يستطيع أحد أن يتفوق عليها في طريقة المناقشة والحوار الذي تتغلب به على الجميع، لم تكن تهاب شيئا، كانت تريد تجربة كل ما في الحياة ولا تتردد أبدا”.
وتستطرد “مها” قائلة إنها كانت على العكس من صديقتها دائمة الصمت، تخاف التحدث مع أي شخص خوفاً من أن يضحك عليها أحد، أو أن يحرجها شخص ما، ولن تستطع الرد عليه، فكانت دائما تكتفي بمشاهدة صديقتها تتحدث كي تتعلم منها، عسى أن يأتي يوم من الأيام وتصبح مثلها.
وترجع “مها” سر الاختلاف بينها وبين صديقتها إلى طريقة التربية، أما صديقتها فقد عودها والدها على الحوار والتعبير عن نفسها بثقة، أما هي فكان “الخوف من ارتكاب الخطأ” هو عنوان تربيتها.
ونقرأ هنا: أسباب عدم الثقة بالنفس عند الأطفال
البحث في الماضي
إحدى الاستشارات الواردة إلى صفحة مشاكل وحلول بموقع أون إسلام، والتي نشرت تحت عنوان “ضعف الثقة.. حالة أصابت الأمة.. وإليكم الأسباب”، يبث فيها صاحبها ضعف ثقته بنفسه فيقول: “لا أعرف الثقة بالنفس، أرى نفسي أقل من الناس، أحلامي كثيرة ولكن لا أستطيع تحقيقها ماذا أفعل؟”.
ومن خلال ردها على الاستشارة توضح د.دعاء راجح المستشارة الاجتماعية أسباب ضعف الثقة بالنفس لدى ملايين من الشباب قائلة:
ضعف الثقة بالنفس وعدم القدرة على تحقيق الأهداف، والذي يعيشه العديد من الشباب هو في الحقيقة يحتاج إلى مجلدات للبحث عن أسبابه وطرق الوقاية منه وعلاجه، ولكن من الممكن حصر تلك الأسباب بشكل مبدئي في عدة عناصر كالتالي:
1. التربية الأسرية القائمة على:
- السيطرة والتحكم الشديد في الأبناء.
- الحماية الزائدة والخوف الزائد على الأبناء.
- التدليل وإشباع الرغبات والإفراط في الرعاية.
- التربية المهملة والتي لا تعنى إلا بتلبية الاحتياجات الجسدية.
- عدم منح الأبناء الفرصة للتعبير عن ذواتهم.
- إهمال وعدم تنمية مواهب الأولاد وقدراتهم.
- تجنب إعطائهم الفرصة لتحمل المسئولية وبث الثقة بأنفسهم.
2. المؤسسات التعليمية التي تتلقى الأبناء لتحشو عقولهم بكم غزير من المعلومات دون تعليمهم كيفية استخدام هذه المعلومات في حل مشكلاتهم أو اتخاذ قراراتهم والتخطيط لحياتهم، ناهيك عن الأساليب التربوية التي لا تقدر الاختلاف بين الطلاب، وتعمل على كبح جماحهم والسخرية من أفكارهم وأحلامهم.
3. المنظومة الإعلامية والتي لا تقدم إلا نجوم الضحالة والإغراء والإسفاف لتجعلهم قدوات للنجاح والتميز.
4. المنظومة الاجتماعية التي لا تقدم للشباب إلا النقد والتوبيخ والتأسف على الجيل، دون أن تمد له يد العون لترشده إلى كيفية تحقيق ذاته ورسم مستقبله.
وكذلك نتعرَّف هنا على: أهمية الثقة بالنفس عند الطفل
تكوين الشخصية
ومن جانبها تؤكد عزة تهامي المهتمة بالشأن التربوي: إن تكوين الشخصية يتطلب من الآباء الإعداد والتأهيل والتدريب بغرس القيم الرائعة، والتعريف بالمفاهيم الصحيحة، والتدريب على مهارات الحياة المطلوبة، كما يتطلب الحماية والتحصين، وتقوية القدرة على مواجهة الضغوط، والتدريب على حل المشكلات الطارئة.
ويحتاج تكوين الشخصية إلى توفير البيئة الصالحة الهادئة المنسجمة المتوافقة التي تغرس الحب وتنشر الطمأنينة وتجني الثقة بالنفس واحترام الذات والاحترام من الآخرين.
وواجب الوالدين تقديم هذه الشخصية للمجتمع مع تدريبها على كيفية التعامل الصحيح مع الآخرين، وهذه المهمة تتطلب الآتي:
- تكوين الثقة الأساسية (بأن يثق الطفل في نفسه ويثق في المحيطين به) وهذه الثقة يتم تكوينها خلال العام الأول من عمر الطفل بتلبية الاحتياجات وبث الود والحنان والحب. والمعادلة التالية توضح مسار تكوين الثقة بالنفس لدى الأبناء: الحب — الطمأنينة — الثقة بالنفس — التعامل الجيد مع الآخرين.
- التربية على الذاتية والاستقلال باحترام الطفل وتقديره واحترام خصوصياته، وهذه في الأصل تتم خلال العامين الثاني والثالث من عمر الطفل.
- التربية على الإيجابية والمبادأة والمبادرة، وتشجيعه على القيام ببعض الأنشطة، ثم الثناء عليه وهذه تتم في الفترة من 3- 6 سنوات.
- تدريب الطفل على مهارات التواصل مع المجتمع وكيف يدافع عن حقه ومتى يقود ومتى ينقاد، وألا يكون إمعة ينساق وراء الآخرين؛ بل يكون صاحب شخصية متميزة من حقه أن يقبل وأن يرفض، وأن يتدرب على هذا في البيت أولا حتى مع الوالدين ومنذ نعومة أظفاره.
- التنشئة الاجتماعية تحتاج إلى دور الأبوين معا، وهنا ننوه إلى أهمية دور الأب واصطحابه للابن في الأنشطة الاجتماعية الخارجية ليتعلم من المواقف ويتدرب ويكتسب المهارات ويتحصن ضد المشكلات.
- يجب اعتماد أسلوب التجربة والخطأ، وأن نحاور الابن أو الابنة ونناقشه في تصرفاته ونسأله لنعرف دوافعه وأسبابه لقيامه بفعل معين.
- تدريبه على بعض الأعمال القيادية داخل البيت أولا، ثم خارج البيت بعد ذلك، مع الثناء على بعض الإجادة منه، ولفت نظره بلطف إلى بعض الملحوظات المصححة للسلوك.
- أن نقترح عليه بعض الأنشطة ليمارسها مع إخوته ويكون له فيها بالتبادل دور القائد حتى لا يكون هو في موقع المتلقي دائما؛ بل يكون له دور الريادة والمبادأة والقيادة لغيره.
- تجنب وصم أي طفل بكونه ضعيف الشخصية؛ حتى لا نكون نحن السبب في تثبيت هذه الصفة لديه، بل نبث فيه العكس: أنت شجاع ولديك دور قيادي وشخصية متميزة وهكذا.. فالبرمجة الإيجابية تصلح الشخصية.
وفي النهاية تلخص المستشارة عزة تهامي كلامها عن الثقة بالنفس لدى الأبناء من خلال هذه المعادلة: تقدير الأبوين لذواتهم — تقدير الطفل لذاته — صناعة احترام الأقران لذاته — تعامل جيد من قبل الأقران — وقاية من عدوان الأقران على الطفل — مستقبل أفضل للطفل.
كتبته: ليلى حلاوة
واقرأ أيضًا: كيف تمنح طفلك الثقة بالنفس