مقدمة الخطبة
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
ثم أما بعد: فإنَّ خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ. وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الخطبة الأولى
ثم أما بعد: إنَّ من الأمور المتفق عليها بين علماء المسلمين قاطبة أن المسلمين يجب أن يكونوا صفًا واحدًا، وأُمة واحدة، غير متفرقين، غير متحزبين، غير متكتلين. بل يجتمعون على كتاب الله ﷻ، وعلى سنة النبي ﷺ. هذا الأمر محل إجماع واتفاق بين علماء الأمة قاطبة. وقد دلت نصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة على هذا الأصل العظيم. بل إن النبي ﷺ قد جاء أناسًا متفرقين متشرذمين متشتتين متحزبين، فجمعهم صلوات الله وسلامه عليه على كتاب الله وعلى سنته ﷺ. فعزَّت هذه الأمة وارتفع شأنها وما هي إلا أيام وسنوات قليلة حتى أصبحت راية الإسلام خفَّاقة في مشارق الأرض ومغاربها.
وعندما تباعد الزمن عن زمانه ﷺ وقدَّم المسلمون أمر هذه الدنيا الفانية على أمر الله ﷻ وتنكّصوا لأمر الله وسُنة رسوله ﷺ حلت عليهم من الله ﷻ. فتفرقوا وتشتتوا وتشرذموا وأصبح بأسهم بينهم شديد. فتسلَّط الأعداء عليهم.
إذًا هذه قاعدة لا تنخرم. إذا ما اتَّحد المُسلمون على كتاب الله وسُنة رسوله ﷺ عَزوا وانتصروا وكانت لهم الغلبة بإذن الله.
كما أسلفت أحبتي في الله، إن النصوص من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ كثيرة جدًا. منها قوله ﷻ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾. ومنها قوله ﷻ: ﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾. وقال ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، واياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».
وعندما ذَكر ﷺ افتراق الأمة -أي أن الأمة ستفترق، وقد افترقت الأمة ولا حول ولا قوة إلا بالله-، سأله الصحابة رضي الله ﷻ عنهم: “ماذا يصنعون إذا أدركهم ذلك الزمان؟” قال: «عليكم بالجماعة». والجماعة هي ما كان عليه صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه رضي الله ﷻ عنهم وأرضاهم والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين.
نقول هذا الكلام أحبتي في الله، ولا نمل من إعادته وتكراره وتذكير أنفسنا وأحبتنا كُلما دَعت الحاجة إلى ذِكره.
في الأيام المنصرمة القليلة، سمعنا دعوات نشاز من بعض المُصلحين الذين يزعمون -أو يظنون- أنهم يريدون الخير بهذا البلد. وهم يريدون إشهار الأحزاب، ويقولون إنه لا تكتمل العملية السياسية، ولن تكتمل العملية الديمقراطية ولن ينصلح المجتمع، ولن تكون هناك ظاهرة صحية إلا بإشهار الأحزاب.
سبحان ربي، ما لكم كيف تحكمون؟ أتظنون أن بإشهار الأحزاب فيه صلاح للبلاد والعباد؟ لو كان الأحزاب وإشهارها فيه صلاح للبلاد والعباد لانصلحت البلاد التي فيها هذه الأحزاب.
انظروا إلى واقعهم، وانظروا إلى حالهم وما آلَت إليه الأمور، نسأل الله ﷻ أن يفرج على بلاد المسلمين، ما صنعت بهم هذه الأحزاب؟ فرقتهم وشتتتهم وأصبح بأسهم بينهم شديد، تناثرت قلوبهم وتقطعت الأرحام بينهم. هذا هو شأن الأحزاب في البلاد وبين العباد.
ولذلك، لو تأملنا أحبتي في الله، لو تأملنا في أركان الإسلام العِظام. تأمل في الصلوات الخمس وتأمل في صيام رمضان، وتأمل في فريضة الزكاة، وتأمل في حَج بيت الله الحرام، ستجد فوائِد ومنافِع كثيرة قطعًا لأنه شرع من لدن حكيم خبير.
جميع هذه الأركان الخمسة ومباني الإسلام العِظام، لا تخلو من التّأكيد على هذا الأصل العظيم: اجتماع الكلمة ووحدة الصف.
المسلمون يصلون متراصّين، لا فرق بين عربي وأعجمي، وغني وفقير، وعالمٍ وجاهل، ووجيهٍ ووضيع. جميعهم قد صُفَّت أقدامهم وتراصّت أبدانهم، يقفون لله الواحد الأحد خمس مرات في اليوم والليلة.
لا شك أن هذا سينعكس على قلوبهم وأرواحهم.
يصومون رمضان، جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يصومون في يوم محدد، في شهر محدد. يحجون بيت الله الحرام، ويقفون جميعهم في مشارِق الأرض ومغاربها في يوم عرفة، في يومٍ محدد، في زمان مُحدد. اجتماع الكلمة ووحدة الصف، هذا أصل عظيم جاء الإسلام بتعزيزه. وكل دعوة إسلامية قومية، قبلية، مذهبية، مجتمعية تُصادِم هذا الأصل العظيم نضرب بها عرض الحائط ونضعها تحت أقدامنا، فإن شرع الله ﷻ هو المقدم. وشرع الله ﷻ جاء لسعادة المسلمين، في الدنيا والآخرة.
لذلك أحبتي، يجب أن نرفُض هذه الدعوات، ويجب أن نأخُذ على أيدي القائلين بها، وأن ننصَحهم، وأن نقوم بواجِب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر. وأن نوصِل إليهم هذا الكلام، علَّهم أن يعودوا، وأن يقرأوا كِتاب الله ﷻ. وبيننا وبينهم كمسلمين، كتاب الله ﷻ وسُنَّة رسوله ﷺ، وما عليه سلف هذه الأمة. فإن وجدوا حرفا واحِدا يدل على جواز التشرذم والتشتت وإشهار الأحزاب، نقول به. وإن كتاب الله وسنة رسوله وما عليه سَلَف الأمة يخالفون هذا الأمر جُملة وتفصيلا، لما فيه من إضعاف هذه الأمة ومن ضياع هيبتها، ومن ذهاب شوكتها. وهذا أمر لا يُرضي الله ﷻ، ولا يعود على الإسلام والمسلمين بأي نفع، بل يعود عليهم بالضرر.
نسأل الله ﷻ أن يحفظنا وإياكم من الفِتَن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل فتنةٍ وشَر، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين.
⇐ وهنا خطبة: الاعتصام بالله سبيل النجاة – مكتوبة – ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين. والصَّلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد ابن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
ثم أما بعد، من الأمثلة التطبيقية من حياة النبي ﷺ، على وجوب اجتماع الكلمة ورفض وإنكار كل أمر من شأنه يؤدي إلى تفرق المسلمين وتناحرهم، ونُفرة قلوبهم وأرواحهم. أقول من الأمثلة على ذلك، ما وقع في سيرته صلوات الله وسلامه عليه.
ونقول ذلك باختصار لأن المقام لا يتَّسع للتفصيل؛ والقصة أظنها معروفة عند عامة المسلمين..
عندما نزل صلوات الله وسلامه عليه في طريق عودته من أحدى أسفاره، منزلا ليرتاح هو ومن معه من المسلمين. ثم اختصم غلامين، غلام من الأنصار وغلام من المهاجرين، على ماء. كل من الغلامين يريد أن يستقي لأصحابه. فضرب أحدهما الآخر، فقال الأول: “يا للأنصار!”، يستنجد بهم، ويستفزعهم، ويستنصرهم. وقال الآخر: “يا للمهاجرين!”. فقام الحيان، وكادا أن يقتتلا.. حمية، وهذه من رواسب الجاهلية التي لا يخلو منها إنسان إلا من رحم ربي. وكاد الحيان أن يقتتلان على ما لهما من الفضل العظيم والمكانة العالية عند الله ﷻ، فقام ﷺ وقال: “أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها، فإنها منتنة”.
تأمل أيها المسلم، كيف أن النبي ﷺ لم يقبل ينتصر أحد هذين الحيين، وإن كان هذان الاسمان اسمان مباركان قد ذُكِرا وخلدا، أعني اسم المهاجرين والأنصار، في الكتاب العزيز في آية تُتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وعندما استُخدم هذين الاسمين استخدامًا حزبيًا يشتت الأمة، رفضه ﷺ، بل سمّى هذه الدعوة دعوى الجاهلية. قال: “أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟”.
علينا أيها المسلمون أن نتقي الله ﷻ، وأن نقف عند حدوده، فإن باتباع الكتاب والسُّنَّة الخير العظيم، والسعادة في هذه الدنيا، والسعادة الأبدية في جنات النعيم. وأن نرفض كل أمرٍ من شأنه يُصادم كتاب الله، ويصادم سنة رسوله، وما كان عليه صلوات الله وسلامه عليه، وما كان عليه سلف الأمة. فإن فعلنا ذلك، فلنبشر بالخير، والتوفيق، والسداد، والإعانة، والحفظ من الله ﷻ. ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
⇐ وهذه أيضًا: من أروع الخطب المنبرية المكتوبة.. بعنوان ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾
الدعاء
- اللهم اجمع كلمتنا على كل خير، ووَحِّد صفوفنا على نصرة دينك.
- اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذِل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك، أعداء الدين.
- اللهم اغفر لنا ذنوبنا، جدنا وهزلنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
- اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، واشف مرضانا، ومرضى المسلمين، وعاف كل مبتلى يا رب العالمين.
- اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا، سخاء، رخاء وسائر بلاد المسلمين.
- اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلِح اللهم ولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا ذا الجلال والإكرام.
- اللهم سَلط الظالمين على الظالمين، ونجنا والمسلمين من بين أيديهم سالمين.
- اللهم احفظنا من الفِتن، ما ظهر منها وما بطن.
سبحانك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.