اسمع يا كامل… إن متاعب الحياة الزوجية أمر لا بد منه ما دام كل إنسان يعاني مسا هامشيا من الجنون. كل إنسان مجنون، لكن المشكلة أن أحدا لا يعترف أنه مجنون، خصوصا إذا كان نزيل عنبر مجانين أو بيت الزوجية.
إننا يوميا نصافح ونكلم ونضاحك ونعايش ألوف المجانين فلا يظهر منهم ما يؤذي أو يكدر إذا استثنينا زوجتي المصابة بجنون النظافة، فإني أطير في الهواء من حين لآخر منزلقا فوق الباركيه الذي تجهد زوجتي الخادم في تلميعه أربع ساعات في اليوم حتى انفض من حولها الخدم جميعا، خاصة بعد أن أشيع أن إحدى هؤلاء الخدم- وكانت في شرخ الشباب- ماتت متأثرة بالتلميع- غير أن هناك ألوانا كثيرة من الجنون لا تؤذي غير صاحبها، فأنت ترى رجلا ضخم الجثة كمصارع الرومان يعاني جنون الرهبة من الظلام، وآخر يعاني جنون الخوف من الأماكن المرتفعة، وكان لنا جار مجنون بالحرص على كرامته بسبب وبغير سبب فقضي العمر يرفع القضايا ويطلب التعويضات، ومعظم النساء مصابات بجنون الأماكن المغلقة، ولنا أن نتصور حال البيت عندما تتزوج امرأة من رجل يعاني جنون الأماكن المكشوفة، لكنها أسعد حظا بالتأكيد من تلك التي اقترنت برجل مصاب بالبيرومانيا، فهو يمكن أن يشعل النار في فراشها دون تعمد إيذائها أو شرائها، بل لمجرد هوس البهجة الشديدة بإضرام النار.
اسمع يا كامل … أنا شخصيا لا بد من أن بي مسا من جنون ما، تمام مثل زوجتك أو زوجتي ومثلنا جميعا…
توقفت عن الحديث لأسأل كامل:
– لماذا لا تتكلم؟-
إني أسمع.
لماذا لا تسألني مثلا ما هو نوع جنوني؟
– إني أسمع.
– على العموم أنا لا أعرف إلى أي أنواع الجنون أنتمي، ولكن زوجتي تعتقد أنني مصاب بجنون العظمة لأنني أرفض مسح المطبخ معها بعد رحيل الخدم هربا منها. لقد أوصتني ذات يوم بأن أظل أمسح حوض المطبخ بذلك المسحوق المنظف حتى أرى صورتي في أرضية الحوض، فظللت أحك أرضية الحوض مجتهدا في تلميعها حتى خارت قواي، وقلت لها في النهاية: إن لدينا مرايا كبيرة في البيت يمكن أن أرى فيها صورتي، وغادرت المطبخ وأنا أقترح عليها تركيب مرآة في قاع الحوض لنرى فيها صورتنا بدلا من تلميع هذا القاع. وبكت زوجتي وندبت حظها لأنها نكبت بزوج مريض بجنون العظمة واستعلى على مسح المطبخ.
وإذا كنت أشك في أنني مريض بأوهام العظمة فالذي لا شك فيه أنني مصاب بنوع ما من الجنون. فما من إنسان يخلو من ناحية جنون.
انظر مثلا إلى الدكتور يسري… هل رأيت من هو في رجاحة عقله واتزانه؟ ومع ذلك، فإنه يفقد توازنه النفسي عند رؤية اللون الأحمر ويتعرض لتوتر حاد واكتئاب شديد، وما أعظم موقف زوجته سهيلة، فقد قاطعت اللون الأحمر بكل درجاته في البيت، والفساتين، وحتى طلاء الشفتين الذي لا تستغني عنه امرأة، ضحت به عن طيب خاطر.
وجدت نفسي قد تكلمت كثيرا، فتوقفت أسأل كامل:
– لماذا لا تتكلم؟-
إني أسمع
كانت مشكلة كامل عسيرة. لقد أحب وجدان وأحبته برغم اختلاف الثقافة والاهتمامات، فهو خريج آداب قسم إنجليزي، وهي خريجة كلية العلوم تخصص حشرات، ولم تحبه وجدان تماشيا مع تخصصها العلمي، بل لأنه نقلها إلى عالم وردي من أحلام لم تدخله أبدا من قبل. كان ينقل إلى أذنيها قصائد كيتس وبايرون وشيلي باعتبارها كلامه، وكانت مفتونة، برومانسيته وأسلوبه الفريد في الحب.
حتى كانت تلك الليلة في أعقاب شهر العسل. كانا يجلسان في شرفة الفيلا والحديقة من حولهما تتنفس عبير ليل الربيع. واحتضنها وهو يهمس بكلمات قصيدة لشاعر يوناني قديم: يا حبيبتي إذا أخلصت لي الحب وأخلصت لك الحب، فسوف يتبدى لنا حصان أبيض ذو جناحين يأتي عبر أشجار البستان، ونمتطيه معا لينطلق بنا محلقا في آفاق سعادة عمرها من عمر الزمان.
وأغمضت وجدان عينيها وقد ألقت برأسها فوق كتفه، ثم همست:
– هل جاء الحصان؟
– إنه قادم بعد قليل.
لقد أفلت الموقف من يد كامل، فهو لم ير وجدان من قبل في مثل هذه السعادة الطفولية الخرافية تنتظر فعلا ظهور الحصان الأبيض ذي الجناحين. لم يكن يتوقع ذلك، وهو يعرف كم تكره وجدان الكذب، ولم يجد لديه الاستعداد للتراجع حتى لا يفسد عليها لحظات نادرة، ولا وجد أيضا الجرأة… ولعن في سره الشاعر اليوناني وحصانه وحماره، ولما اشتدت برودة الجو والليل يقترب من فجر النهار، أكد لها أن الحصان لا بد من أن يأتي في الغد.
في اليوم التالي انتظرت وجدان حلول الليل في اشتياق، ثم تهيأت لاستقبال الحصان بثوب ملائكي أبيض، وبينما هي تعانق كامل، اهتزت أوراق الشجر المحيطة بالفيلا، وأطل حصان أبيض برأسه بين الأغصان، وشهقت وجدان ثم صاحت كالمسحورة: الحصان الأبيض. وسط هذا الحلم الأسطوري المثير، دق جرس الباب وأسرع كامل ليجد العربجي صاحب الحصان يطالب ببقية أجره عن التمثيلية، وحاول كامل أن يكون صوته خفيضا قدر الإمكان وهو يقول للعربجي: إنه سوف يمر عليه في الغد، ثم دفعه بيده إلى الخارج برفق وأغلق الباب، وبينما كانت وجدان ترتمي في أحضان كامل استعدادا لركوب الحصان، دار العربجي حول الفيلا ثم اعتلي السور وظهر إلى جوار الحصان وصوته القبيح يشق هدوء الليل مهددا متوعدا. وانكشف الأمر، وبكت وجدان كثيرا، وشعرت ببعض الراحة والعزاء وهي ترى الجرح الذي أحدثه العربجي في جبهة كامل.
لقد مضت ست سنوات على تلك الليلة، وبرغم أن كامل لم يعد في حاجة إلى أن يقيم الدليل على حبه لها، إلا أن الجرح الذي أحدثه العربجي بقي ندبة في قلبها أيضا، وبقيت معها عقدة الحصان الأبيض تدين كامل بالكذب كلما روي خبرا أو تكلم؟ ثم تعلم أن يلوذ بالصمت، فإذا سئل لماذا لا تتكلم، قال إني أسمع. وظل على هذه الحال حتى اجتاح البيت ذلك الإعصار الأخير عندما عثرت وجدان في جيب سترته على زهرة جافة عجز عن إثبات مصدرها.
استمر حديثي مع كامل حول شيوع الجنون الهامشي بين الناس، وقلت له: إنه ينبغي عليه أن يتعاون مع زوجته المريضة بكراهية الكذب مثلما تتعاون سهيلة مع زوجها يسري المريض بجنون اللون الأحمر.
قال كامل: إني أسمع.
أقبل علينا الدكتور يسري فأسرعت أخفي ولاعة كامل الحمراء. وبينما التزم كامل الصمت، توليت شرح حادثة الزهرة الجافة التي عثرت عليها وجدان في سترة كامل، وفكر يسري قليلا ثم سأل كامل: من الذي يدريك أن وجدان لم تلفق لك هذه التهمة، خصوصا أنها عثرت على الزهرة في غير حضورك؟
قال كامل: إني أسمع.
وعاد يسري يسأله: ثم من الذي أعطاها حق تفتيش ملابسك.
قال كامل: إني أسمع.
تبين لنا حالة إني أسمع عند كامل قد تفاقمت عقب حادث العثور على الزهرة الجافة في سترته، وأنه يمر بأزمة نفسية مؤلمة. وعندما نقلت هذا الخبر إلى وجدان لم تأخذ الأمر مأخذ الجد، لكنها أيقنت من خطورة الأمر عندما رفعت سماعة التليفون من غرفتها، تسترق السمع بعد أن طلب كامل رقما وهو في غرفة المعيشة، ورد عليه صوت سامي شريكه في المكتب، ومع أن كامل هو الطالب فقد بدأ محادثته قائلا لسامي: إني أسمع، قال سامي: كامل؟ لماذا لم تأت لتوقيع العقد مع الفرنسيين؟ قال كامل: إني أسمع وصرخ سامي: ماذا تسمع عليك لعنه الله؟ فرد كامل: إني أسمع.
تحرك الحب في قلب وجدان وأعلنت أنها غفرت له حادثة الزهرة الجافة في سترته، ومر كامل بسلام من أزمة إني أسمع وبدأ يتماثل للكلام.
وعندما لانت وجدان تجاه كامل، انتهزت الفرصة فقلت لها: إن الحب مبالغات خيالية وخيالات مبالغ فيها. كل فتاة زرعوا في أحلامها صورة الفارس الذي سوف يأتي على جواد أبيض ليختطفها، إنها صور رومانسية وليست حقيقية، فلو جاء هذا الفتي الآن واختطف البنت على جواد أبيض لقيدوا الحادث ضد جناية خطف وحكموا عليه بالإعدام.
لاح لي أن وجدان قد بدأت تقتنع، فواصلت قائلا: لا ينبغي أبدا إن نطبق مقاييس الكذب على كلام العشاق والمحبين وإلا فقد الحب سحره… قولي لي يا سيدتي، ماذا يعني الحبيب عندما يقول لحبيبته اطلبي عيوني… نحن نبالغ دائما يا سيدتي في كلام الحب أو وصف الحبيب…
إن في تحفة توفيق الحكيم يوميات نائب في الأرياف نجد الشيخ عصفور يردد أغنية فولكلورية تقول: ورمش عين الحبيب يفرش على فدان.. أي رمش هذا؟
لا شك أننا نواجه هنا شكلا تشريحيا نادرا لرمش العين. إنه رمش يحتاج إلى أكثر من عشرين شغالة كل صباح لغسله وتنظيفه من آثار النوم، ثم كم صندوق صابون تواليت وكم فنطاس ماء تلزم لإتمام هذه المهمة يوميا.
بدا لي أن وجدان قد اقتنعت، وفكرت لبرهة وهي تبتسم، ثم ترددت قليلا قبل أن تستحلفني بألا أبوح بالسر، واعترفت أن كامل بريء من حادثة الزهرة الجافة في سترته، وأنها هي التي اختلقت الواقعة برمتها.
– لماذا يا وجدان؟-
لأعرف كيف يكون مظهره وهو بريء، ولكن الذي غاظني أنه بدا مذنبا فور اتهامه، فأيقنت أن امرأة ما قد أعطته زهرة ذات مرة، ولهذا ارتبك أمامي. على أية حال أنا أبحث الآن -بشكل علمي- كيف أفرق بين كذبه وصدقه.
انقطعنا فترة غير قصيرة عن كامل ووجدان بسبب القضايا التي ترتبت على جنون النظافة عند زوجتي، إذ اكتشفت زوجتي صرصورا صغيرا فرأت أن تقاضي الشركة التي قامت برش البيت ضد الصراصير، وصممت زوجتي أن تحتفظ بالصرصور حيا في علبة خاصة، وعهدت إلي بمهمة تقديم الطعام والشراب لهذا الصرصور حتى نقدمه في جلسة المحكمة… ومن ناحية أخرى رفعت علينا مالكة العمارة دعوى لأن إحدى الأرضيات في البيت تآكلت من شدة التنظيف وأصبحنا نري الجيران تحتنا بوضوح.
وعندما دعت وجدان وكامل الأصدقاء للاحتفال بعيد ميلاده كنت وزوجتي أول الحاضرين، ولم يكن كامل قد عاد بعد من موعد عمل مهم، وقد لاحظت أن الأمور قد تطورت كثيرا، إذ كانت وجدان تبدو سعيدة، كأنما تخلصت من جنون كراهية الكذب.
ما الذي حدث؟ استرقت السمع وهي تحادث السيدات.
قالت وجدان: كنت أتمنى أن أشتري جهاز وبليجراف لكشف الكذب الذي يستخدمونه مع المجرمين لأقيس نبض كامل وضغط دمه وتنفسه واستجابة جلده للمؤثرات الكهربائية، لكن الجهاز -للأسف- باهظ الثمن، كما أن تشغيله يحتاج إلى فنيين، ولهذا رأيت أن ألجأ إلى الطريقة القديمة لكشف الكذب في الهند والدنمارك، فكانوا يرغمون المتهم على أن يلعق قطعة من الحديد الساخن، فإذا أحرق لسانه ثبت كذبه، على أساس أن الخوف يسبب نقصا شديدا في اللعاب مما يجعل لسانه جافا سهل الاحتراق.اقشعر بدني. تصورت لسان كامل المسكين وكيف أصبح، ثم حمدت الله ووجدان تواصل حديثها: لكنني عدلت عن استعمال الحديد، لأن تسخين الحديد يحتاج إلى وقت، ومن غير المعقول أن أقوم بتسخين الحديد عشرين مرة خلال أحاديث كامل، ولهذا لجأت إلى أسلوب آخر كان مطبقا في أوروبا خلال العصور الوسطى، وهو حشو فم كامل بكمية من الأرز الجاف، فإذا فشل في ابتلاعه بسبب نقص اللعاب كان كاذبا.
انهالت الأسئلة من السيدات تستفسر من وجدان عن مقدار الأرز الواجب حشوه في الفم.
– نصف كوب أرز جاف
ومضت وجدان تقول: أما في المجتمعات الحديثة فمن العسير أن أحمل معي الأرز، لذلك اكتفي بأن يخرج كامل لسانه لأراه جافا أو رطبا، وقد أصبحت خبيرة في ذلك بمجرد إلقاء نظرة.
عندما دخل كامل نهضت لأعانقه وأحييه في شوق وأهنئه بعيد مولده، فرد تحيتي بكلمات طيبة ثم أخرج لسانه إلى آخره، ورد تهنئتي ثم أخرج لسانه إلى آخره، وعندما سألته وجدان هل وفق في غداء العمل الذي ذهب إليه، رد قائلا: سنوقع العقد غدا، ثم أخرج لسانه إلى آخره.
أصبحت عادة ميكانيكية أن يتكلم كامل ثم يخرج لسانه إلى آخره…
وساءني أن يصبح كامل من الفصيلة الكلابية، لسانه يتدلى خارج فمه أكثر مما يستقر داخله، وبينما أنا سارح مع خواطري شد انتباهي فستان أحمر ترتديه إحدى المدعوات. كيف سيواجه الدكتور يسري هذا الموقف؟
استفسرت عن كيفية حل هذه المشكلة، فقيل لي: إن يسري لن يأتي.
– لماذا؟
– مسكينة سهيلة زوجته أصيبت بجنون اللون الأحمر.
– هذه السيدة العاقلة أيضا؟ كيف؟
– ضبطت في جيب يسري منديلا كله أحمر شفاه.
بقلم: أحمد رجب