في رحاب سورة يوسف، تلك السورة التي تحتوي على درر من الحكمة والموعظة، ساقها لنا القرآن الكريم في سرد قصصي محكم البيان والبنيان، لا يأتيه الباطل من بين يديد ولا من خلفه، لنهتدي به في ظلمات الحياة ونتعرف على معاني الفهم والإحاطة ببواطن الأمور، ونستخرج منه الدروس النافعة في الدنيا والآخرة، وهنا سنتعرض معا لطائفة من الدروس والعبر، نسأل الله أن ينفعنا بها ويهدينا إلى خير ما فيها.
تدبير الله وإرادته فوق تدبير البشر
من الدروس التي ساقتها لنا الآيات الكريمة في سورة يوسف أن تدبير الله يفوق تدبير البشر وتخطيطهم وكيدهم، وإن إرادته ماضية رغم أنوفهم، فكم من شخص مكر به أعدائه وخططوا لإيذائه وإيقاع الضرر به، وكان الفشل والخذلان حليفهم، بل كم من البشر خططوا للمكر بإنسان ونصبوا له فخًا وقصدوا به شرًا، وهم يضعوه على بداية الطريق الصحيح إلى النجاح والفلاح دون أن يدروا.
هكذا تفاصيل قصة يوسف عليه السلام مع إخوته، خططوا ودبروا لإبعاده عن أبيه والاستئثار بمحبته، فقالو: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10) ففرقوا بينهما بحيلة شريرة وكذبة آثمة، أجرموا في حقه وألقوه في المهالك، ونسبوا جرمهم إلى حيوان أعجمي لا يملك الدفاع عن نفسه، ولو كان ناطقا لنطق بكذبهم وشهد على مؤامرتهم، ولكن اقتضت حكمة الله أن ينجح أخوة يوسف في التفريق بينه وبين أبيه، نعم فرقوا بينهما لكن لم يبرح يوسف -عليه السلام- قلب أبيه كما أرادوا، بل زاد تعلقه به وانشغل فؤاده عليه حتى ذهب بصره من بكائه على ابنه، وهنا درس قوي فقد نتخذ كل الوسائل إلى غاياتنا، ولكن إدراك الغاية يظل بيد الله عز وجل، إن شاء يسره، وإن شاء أخره، وإن شاء حال بيننا وبينه، ونحن لا نملك اختيارا في ذلك كله.
إلقاء سيدنا يوسف في غيابات البئر محنة عظيمة، وشدة ليست هينة على طفل، فيها من الرعب ما يفتك بالقلب ويشل العقل، وهي مظنة الهلاك والموت المحقق، ولكن تدبير الله غلب تدبير أخوة يوسف، فأنجاه من ظلمات البئر، والتقطه بعض السيارة فعلاً.
بِيع يوسف -عليه السلام- واشتُرِي، بثمن بخس، وذاق طعم العبودية، وذل الرق، وصار الحر مملوكا لغيره يأتمر بأمره ويقوم على خدمته، ويتحرك رهن إشارته، وفي هذا من الألم الذي يعرف مرارته كل حر ما لا يقل قسوة عن ظلمة الجب وأشباحه ومخاوفه، وكانت تلك الحلقة من حياة يوسف عليه السلام محنة ثانية وابتلاء شديد، يشق على الشخص العادي تحمله، فما بالنا بنبي ابن نبي، وعزيز بن عزيز.
وهكذا كان حال يوسف -عليه السلام-، لا يبشر بخير ولا يرجى معه نصر ولا بارقة أمل يمكن لإنسان أن يدركها بعقله القاصر وإدراكه المحدود، فحتى الآن يوسف عليه السلام ينتقل من سجن الجب إلى سجن العبودية.
وأعدت الأقدار ليوسف- عليه السلام- امتحانا أخر، من نوع جديد وهو امتحان العفة والذي نجح فيه بجدارة، وأوصله هذا النجاح إلى سجن جديد بين أربعة جدران، يستمر لسنوات.
أما أخوة يوسف فقد فعلوا ما خططوا له، وأخرجوا يوسف من حياتهم، لتستقيم حياتهم بدونه ويتخلصون من الغيرة التي نغصت عليهم حياتهم، وعاشوا حياتهم بلا يوسف غير مهتمين لمصيره، ولا متسائلين عما جرى له بعد اللقاء الأخير بينهم وبينه.
وتقتضي إرادة الله أن يمض كل من الفريقين في طريقه، سائراً نحو المصير المحتوم الذي أراده الله له، فأخوة يوسف يقودهم الاحتياج إلى لقاء مشهود، ويوسف عليه السلام يسلمه السجن إلى الحرية، وتقوده العبودية إلى الملك والعزة والسلطان، فيصبح الأسير الذي لا يملك من أمر نفسه شيئا، يملك تصريف أمور مصر بأسرها.
وتتحقق إرادة الله وتسري حكمته على الجميع، ويتجلى لطفه رغم أنف من لا يريد ذلك (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (10).