حدَّثَ سهمُ بن كنانة قال: كنتُ البارحة متَّصلاً بناطح بن مَوتورْ، الذي يسمِّيه بعضُ أصحابه بالهامورْ، ويسميه بعضُهم
بالديناصورْ، وقد قيل إنه يملك من المال ثلاثين مليارا، ومن خبراء المضاربة جيشاً جرارا، فكان مؤشرُ السوق(1) بيده كالإبرهْ، يحرِّكه بنقرهْ، ويهزُّه بنظرهْ، ويتلاعبُ به يمنة ويسرهْ، فكأنَّ الناسَ
عنده لا تساوي بَعْرهْ، وكان إلى هذا هادىءَ الطبعْ، كجدولٍ ينسابُ أو نبعْ، لكنَّه إن غضبَ تحوَّلَ إلى ضَبعْ، لا يعرفُ الأهلَ ولا الرَّبعْ.
المهمُّ أني حدثتُه في المسنجرْ، فلم أمَلَّ ولم أضجَرْ، فقد كان ماتعَ الحديثْ، يتناولُ منه الطيِّبَ والخبيثْ، وأخبرني أنه فرَّ من السوقْ، كما فرَّت من الجزَّار النوقْ، ولجأ إلى جنيفْ، ليتمتَّعَ بعطلة الصَّيفْ، وزعمَ أن خروجَه كان في أواسط (جُونْ)، وقال إنَّ من بقيَ فيه بعد ذلك مجنونْ.
سألتُه: أنتَ الآن في جنيفْ؟ فأجاب: كيفْ؟(2)
ثمَّ أضافْ: تمتَّعوا بالربيع يا خرافْ.. ما أسعدَكم بنجدْ، صيفُها بَردْ، وصحراؤها وردْ، ورائحتُها ندْ، إنها والله ربيعْ، وروضٌ بديعْ، يستأنسُ به الجميعْ، ثم أطلقَ ضحكة مدوِّيهْ، لم تكنْ إلا رسوماً مؤذيهْ.
وهنا علمتُ أن صاحبي معتوهْ، ذو قصدٍ مشبوهْ، ولا ينطقُ بالحقِّ فوهْ، فودعتُه قائلاً: “لا هِنتْ”، وأقفلتُ الإنترنتْ. بيد أن حديثَه أهاجَ شُجوني، وأسالَ الدمعَ من عيوني، ولم تكدْ تصدقُه أذْني، وتذكرتُ: “الدنيا ربيعْ، والجو بديعْ، قفِّل لي على كل المواضيعْ”. وقد أخذتُ برأيها وعانقتُ الربيعْ، فبئسَ الخليلُ والضجيعْ، وهل عَرَفتْ نجدُ ربيعاً قطْ، وهل احتضَنتْ فيافيها بُحيرةَ بطْ، بل إنها تخلو حتى من النِّفط، مساكينُ أهلُ نجدْ، تسوقهم إلى المطر مشاعرُ الوجدْ، فيفرحون إن لاحتْ بوادرُه، ويطربون إن هلتْ بشائرُه، ويحزنون إن أقلع هطلُه، ويبتئسون إن عزَّ نولُه، وقد ساقهم الاضطرارْ، إلى لزوم الديارْ، وكتمان الأسرارْ، واصطلوا بلهيب الشمسْ، مصطلحين على تسمية ذلك (بالحَمْسْ)، وليس في نجد إلا شتاءٌ وصيفْ، لا تتخللُهما ألوانُ طيفْ، ولا يسمعُ أهلها بهمس النَّواعيرْ، ولا بشدو العصافيرْ، ولا تكتحلُ أعينُهم برؤية البحرْ، وهو يتقلبُ بين مدٍّ وجزرْ، ولا يبللهمُ الرَّبابْ(3)، ولا يغشاهمُ الضَّبابْ، ولا يشمُّون رائحة المَلابْ(4)، بل لقد ألفوا سُحُبَ الغبارْ، كما ألفت الغيدُ حبَّ النُّضَارْ، والنحلُ عناقَ الأزهارْ، فوجوهُهم منه في اصفرارْ، وصدورُهم منه في احتضارْ، وعافيتُهم منه في انحسارْ، وهم ينتشرون في المشافي طلباً للأوكسجينْ، كما انتشرت في دارفور قواتُ الهَجينْ، ولا يشعرُ أهلُ نجد بتعاقب الفُصولْ، ولا يتغنَّون بأزهار الحقولْ، بل إن الأوراقَ لا تتساقطُ في الخريفْ، لا في المزاحمية ولا في عفيفْ.
أما أهلُ الرياض فراحتُهم في الطعوسْ(5)، وبهجتُهم امتطاءُ الجُموسْ(6)، وقرَّةُ أعينهم لحمُ التيوسْ، وإذا ذُكِرتْ عندهم الثمَامَهْ(7)، أظلَّتهم من الفرح غَمَامهْ، فهم لا يعدلون بها دبيَّ ولا المنامهْ، ولا تَسَلْ عن تعلقهم بنزهة البرْ، كما يتعلَّقُ المجرورُ بحرف الجرْ، ولا عن شَغَفهم بالقهوهْ، شغفَ العمِّ سام بالقوَّهْ، والشيخ الكبير بصبيةٍ حُلوهْ، ولا عن إقبالهم على (الكفي شَبْ)، وارتشافهم كلَّ ما في (الكَبْ)، ولا عن ازدحامهم في الأسواقْ، كما ازدحمتْ بالإفرنج بلادُ العراقْ، ثمَّ إنهم يهيمون بالبطيخْ، كما هامتْ بالعمائم السِّيخْ، وحنَّتْ (ناسا) إلى المرِّيخْ، ويزعُمُون أنَّها فاكهة الحرْ، وأنجَعُ وسيلةٍ للدَّرْ، فهي عندهم شرابُ الجعَهْ، ورمزُ الاسترخاء والدَّعَهْ، وربما تباروا في اقتناء الرُّطبْ، وسمَّوه “مسامير الرُّكبْ”(8)، وتغنَّوا بشموخ النخيلْ، كما تغنَّى الشاعرُ بموسيقى الهديلْ، وبعضُهم أدمنَ على مسلسل (نورْ)، في كلِّ عشيَّة وبُكورْ، بحثاً فيما زعموا عن الأنسْ، واستجلاباً لراحة النفسْ، وغاصَ بعضُهم في سنوات الضَّياعْ، كما غاصَ الغريقُ إلى القاعْ، فأمسى عندهم غاية الاستمتاعْ، وفتنة الأبصار والأسماعْ، بل أمسى أطربَ في آذانهم من السَّماعْ(9)، وأشهى لصغارهم من الرَّضاعْ، كما أنهم قومٌ يحبِّذون القيلولهْ، ونفوسُهم على عشقها مجبولهْ، فترى طرقاتِهم حينها خاليهْ، وبيوتَهم داجيهْ، وعيونَهم ذاويهْ، كأنهم أعجازُ نخل خَاويَهْ، فهل ترى لهم من باقيه، والأدهى أنهم مُدمنون على سوقهم، وحبُّها يجري في عروقهم، وقد باعوا من أجلها أطايبَ نُوقهم، وهاهيَ الآن غُصَّةٌ في حلوقهم، فياليتَ شعري كيف يصبرون على الصيفْ، ويروِّحون عن أنفسهم كيفْ؟
قال سهمُ بن كنانة: عندما رأيتُ سوقنا تنهارْ، والناسُ بين بائسٍ ومُحتارْ، تذكرتُ ناطحَ بن مَوتورْ، وما هو فيه من بَحْبوحةٍ وسرورْ، وتمتمتُ في نفسي: “ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء”، ورحم الله قوماً يذوقون الأمرَّينْ، فهم ضحايا نارينْ، وأسرى حصارينْ: صيفٍ ساخنْ، وسوقٍ تفورُ كالمداخنْ.
- سوق الأسهم.
- إجابة باللغة المحكية تعني تأكيد الإيجاب والموافقة.
- السحاب الأبيض.
- نوع من الطيب.
- التلال الصغيرة أو الكثبان الرملية.
- سيارات GMC
- منتجع صحراوي خارج مدينة الرياض.
- كناية عن فائدته الصحية.
- الغناء.
بقلم: د. أحمد بن راشد بن سعيد
⇐ وتنقَّل معنا عبر المقترحات: