أكتوبر نقطة تحول في حياة وطن
مهما توالت الأحداث، وشهد تاريخ مصر من التغيرات والأحداث الفارقة، ومهما تبدلت خارطة الحياة السياسية أو الاقتصادية أو غيره، ستبقى ذكرى نصر أكتوبر المجيدة خالدة في ذاكرة المصرين، ليس في ذاكرة الجيل المعاصر لتلك المعركة والذي كان شاهدًا على خسائرها ومكاسبها ودفع ضريبة الانتصار فيها فحسب، بل وفي ذاكرة الأجيال الجديدة التي لم تر ولم تسمع شيئا من تفاصيلها.
ولكنها حتى يومنا الحاضر لا تزال تتنسم عبير الحرية وتتمتع بالاستقلالية، ولا تزال تجني ثمار التضحيات التي بذلت والأرواح التي راحت فداء ذلك الوطن، واعتقد أن ذكرى انتصارات اكتوبر ستبقى في العقل والقلب حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
6 اكتوبر نقطة تحول جوهرية في حياة الوطن
تمر الأوطان بأحداث جسام، ومحطات كبيرة ومراحل حيوية تؤثر في مجرى الأمور، وتمثل نقطة تحول حقيقية وتصنع فارقًا ملموسًا بين ما قبلها وما بعدها، وهكذا كانت حرب اكتوبر المجيدة حدثًا استراتيجيًا وتاريخيًا وسياسيًا مميزًا.
وكانت ملامح مصر قبله شيء وصارت بعده شيئًا مختلفًا تمامًا، وكأن التاريخ أراد بتلك المعركة أن يطوي صفحة مشوهة من تاريخ مصر والأمة العربية بأسرها، ليكتب صفحة جديدة مختلفة في معطلاتها ومعانيها وصياغتها وكل ما يحدث فيها.
ولكن كيف كانت حرب اكتوبر نقطة تحول في حياة مصر؟
منذ الساعات الأولى من قرار توقيع اتفاقيات فك الاشتباك رسميًا والذي حدث في نهاية شهر مايو عام 1974م بدأ التغيير انطلاقٌا من خضوع العدو الصهيوني (اسرائيل) إلى اعادة ضفة قناة السويس الشرقية إلى مالكها الحقيقي (مصر) وإعادة مدينة القنيطرة للدولة العربية الشقيقة سوريا نظير سحب كل من القوات المصرية والسورية من خط الهدنة، الأمر الذي يعد انجازًا رائعًا، ويترك لدى المصرين شعورًا قويا بأن المعركة بدأت تأتي ثمارها.
وقد اكتمل هذا التغيير الإيجابي المفرح باسترداد جميع الأراضي المصرية في شبه جزيرة سيناء فضلًا عن التمتع المصري بالسيادة الكاملة على قناة السويس، والذي كان سببًا مباشرًا في عودة الملاحة في قناة السويس، ولك عزيزي القارئ أن تتخيل مدى التغير الاقتصادي والتجاري الذي نجم عن تلك الخطوة.
أما على الصعيد السياسي الداخلي والخارجي فيمكن القول أن نصر اكتوبر أعاد للمصريين الثقة بأنفسهم وبقدراتهم وجيوشهم التي نجحت في تحطيم أسطورة العدو الذي لا يقهر، الأمر الذي تبعه تغييرات بالغة العمق على استراتيجيات مصر وعلاقاتها الدولية، فضلًا عن ظهور قيم التضامن السياسي العربي وصموده أما تحديات الصراع العربي الإسرائيلي.
هذا وقد كان لحرب اكتوبر الفضل في تحريك القضايا العربية الراكدة نحو البحث عن حلول سلمية لتجاوزات العدو الصهيوني ، ومن ثم جاء قرار مجلس الأمن بإطلاق المفاوضات بين الطرفين المتقاتلين منذ أو ل يوم من إطلاق النار، والذي تمكنت من خلاله الدبلوماسية المصرية من تقويض النفوذ الإسرائيلي وفرض نطاق من العزلة على العلاقات الخارجية الاسرائيلية، وذلك برغم مماطلة اسرائيل وعدم وفائها بالتزاماتها تجاه القرار الذي نص على وقف اطلاق النار خلال 13 ساعة.
كانت حرب اكتوبر بمثابة التمهيد لاتفاقيات السلام (المزعومة) بين مصر واسرائيل، والتي كان لها كبير الأثر في انتعاش الاستثمار في مصر، واتجاه رأس المال الخارجي إليها بثبات وثقة، وهو ما غير كثيرا في واقع الحياة الاقتصادية المصرية آنذاك.
تغيرت نظرة العالم الخارجي والقوى السياسية والاقتصادية الكبرى إلى مصر، واعترف لها العالم بأسره بقوة التأثير والفاعلية في مجريات القضايا العربية، ومن ثم توطدت عرى العلاقات السياسية والاقتصادية بالدول العربية والأجنبية أيضًا.
من وحي السادس من أكتوبر
على المستوى العسكري لا يمكن أبدًا غض النظر عن أهمية حرب السادس من أكتوبر ولا مفارقاتها التاريخية، فالعدو والصديق يقر أنها مرحلة فاصلة وشهادة قوية على حنكة الجيش المصري وحسن تخطيطه، حتى من يحللون المشهد من زاوية مختلفة ويعتبرون أن انتصارات اكتوبر تنطوي على هزيمة كبيرة وخسائر فادحة، لا ينكرون قوة الصفعة التي حملتها من المصريين إلى عدوهم الصهيوني، تلك الصفعة المفاجئة التي تلقاها العدو على حين غفلة وهو في قمة أفراحه ونشوته.
وعلى المستوى الإنساني والروحاني فقد أصلت معركة السادس من أكتوبر لدينا الكثير من الخبرات والقناعات والمثل، وهنا سنسوق طائفة من العبارات من وحي حرب السادس من اكتوبر وإلهاماتها التي لا تنتهي، بل وتتكشف مع مرور الأيام.
- حرب اكتوبر هي تأكيد على أن معايير النجاح والانتصار على العقبات ليست مادية فقط، بل هي روحانية وإيمانية من الدرجة الأولى، فصدق النية والعزم، والإرادة القوية، وحسن الظن بالله، والوحدة في الرأي والرؤيا، والولاء الحقيقي والانتماء الفعلي لفكرة واحدة يمكنها أن تحول الضعف إلى قوة والهزيمة إلى نصر، ويمكنها أن تشد الأزر وتدعم المؤمنين بها والسائرين على دربِها.
- قوة الإرادة لا ترتبط بقوة البدن، فالمقاتلون المصريون كانوا في أشد قوتهم وإرادتهم، وهم جوعى وعطشى وصائمين عن كل ما يقيم البدن ويقويه، قاتلو في ساعات النهار لأنهم كانوا يستمدون القوة من لدن علي كبير ولم يكونوا يستمدونها من غذاء ولا ماء يدخل بطونهم، ويروي ظمئهم.
- يمكن المقارنة بين المشهد المفجع للنكسة في 67 والمشهد التاريخي للنصر في 73 بكلمتين عريضتين، تجمعان كل تفسيرات النصر والهزيمة في آن واحد، الإخلاص والاتحاد (نصر اكتوبر 73) في مواجهة الخيانة والفرقة (هزيمة 67).
- عنصر المفاجأة في مهاجمة العدو هو نصف التخطيط الناجح للانتصار عليه، فالعدو الإسرائيلي كان غافلًا غارقًا في احتفالاته وأفراحه، بينما جاءته الصفعة غير المتوقعة من المقاتلين المصريين، فأسفرت المفاجأة عن الارتباك والتخبط والدهشة والغضب الذي أفقد العدو توازنه لساعات، تلك الساعات هي التي لها أكبر الفضل فيما تحقق من الانتصارات.
- لولا الكتمان والسرية التامة في التخطيط، لما نجحت مصر في هجومها، وهذا إن دل فإنما يدل على انتماء المصريين وولائهم المطلق لجيشهم وأوطانهم.
- وهم القوة هو ذلك الغشاء الضبابي الذي وضعه العدو الصهيوني على عينيه وهو بكامل إرادته، والغرور والغطرسة هي نقطة الضعف التي طالتهم الهزيمة من خلالها، فادعاء الجيش الذي لا يقهر هو ادعاء واه وباطل، وعار عن الواقعية، رددوه فصدقوه وحدهم، فانقلب هذا اليقين عليهم وأنزلهم منازل الخسران والتخبط.
- اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب بالضبط، هو عين القيادة الناجحة وأساسها، وهو سر المكاسب التي حققها المصريون في بداية حرب اكتوبر وغيابه فيما هو سر الخسائر التي مني بها المصريين في الأيام المتأخرة من القتال.
- في دنيا الحروب لا يوجد منتصر انتصارًا مطلقًا، فكل منتصر يخسر بعض جنوده ومؤنه وعدته وعتاده، ولكن التاريخ هو من يحكم لأحد الطرفين بالانتصار ويحكم على الآخر بالهزيمة، فعلى الرغم من ضحايا حرب اكتوبر الذين خسرتهم مصر وفقدهم أهاليهم وأسرهم، فإن التاريخ اعتبر مصر المنتصر وإسرائيل الطرف المهزوم.
- رائع أن نحتفل بانتصاراتنا، ولكن مؤسف أن تصبح كل علاقتنا بالانتصار احتفال بذكراه.
- مفيد أن نشدو ا بانتصاراتنا، ولكن مؤسف أن لا نتعلم من هزائمنا، ومخز أن نلوي رقاب الحاضر ليظل مركزًا على الماضي، فيفوته الحاضر أو يفوت هو الحاضر ويعجز عن رؤية ملامح المستقبل.