عند حديثنا سوياً عنه، كونه موضوع تعبير عن التسامح أو أنهُ هدف نبيل، فإننا ما دُمنا نعيش في تلك الحياة ونحتك بالبشر من حولنا فيجب أن نتوقع الإساءة من أحدهم، وسوء التقدير من آخر، والظلم من ثالث، لأننا بشر نخطئ ونتسرع ونسيئ الفهم ونسيء الظن أيضًا، ونغضب ونثور ربما لأقل الأسباب، ولو ظللنا نتمسك بالأخطاء ولا نغفر ونقف على كل ما يصدر من الآخرين لما استطعنا أن نستمر في علاقاتنا، بل لا نستطيع الاستمرار في الحياة نفسها.
وهنا يجدر بنا ونحن ندع إلى كل ما يرتقي بأخلاقنا وسلوكياتنا وطباعنا أن ندعو إلى قيمة من أروع القيم وأهمها في بناء الإنسان الراقي والمجتمع المتحضر، وهي قيمة التسامح وما يتعلق بها من معاني التجاوز عن الأخطاء والتغافل عنها، وغض الطرف عن سيئات من يحيطون بنا، وسنبين فائدة ذلك للإنسان نفسه وللآخرين ممن يحيطون به.
معنى التسامح
التسامح هو حالة نفسية وانفعالية تترجم إلى سلوك معين، وتعني العفو، الرحمة، المغفرة وكل المعاني الراقية التي تنطوي على القدرة على تقبل أعذار الآخرين بشأن ما يرتكبونه من الأخطاء أو التجاوزات أو التقصير في حق الإنسان، وهو معنى عام يشمل كل ما يمكن أن يصدر عنهم من الأخطاء، وأيا كانت درجة قرابتهم أو مكانتهم عند هذا الشخص.
فالإساءة قد تأتي من شخص بعيد علاقتنا به محدودة أو عابرة وقد تأتي من شخص قريب، بل قد تأتي من أقرب الناس إلى الإنسان وأحبهم إليه، ومن أفضل ما يعرف به التسامح أنه صورة من صور الصفح الجميل، والعفو المطلق الذي يخلو من اللوم والعتب والقسوة في التأنيب، وهو القدرة على قلب صفحة بها ذنب أو تقصير أو إساءة وفتح صفحة أخرى دون نظر إلى تلك الصفحة ودون عودة لها، قلبها ثم نسيانها تمامًا ثم التعامل مع الآخر بصفاء ونفس مطمئنة وكأنه لم يرتكب خطأ يذكر.
أهمية قيمة التسامح للإنسان نفسه ولمن حوله
إن التسامح هو ارتقاء بالنفس وسمو بها عن الصغائر، وترفع عن النزول إلى مراتب الثأر والرغبة في الانتقام، وهو يعتبر ضرورة حياتية تفرضها الرغبة في الاستمرار، فالإنسان من المستحيل أن يعيش وحيدًا ومن المستحيل أن يعيش في مجتمع ملائكي لا يسيء فيه أحد إلى الآخر، ولا عجب في ذلك إذا كان الإنسان نفسه يسيء لنفسه ويخطئ في حقها، ويظلمها ويجور عليها، وأحيانًا يسيء فهمها وتقديرها، ومن ثم فإن الإنسان لو لم يتسامح مع نفسه ومع غيره فكيف يستطيع إكمال الحياة وتحمل التحديات، ومواجهة المشكلات والأزمات وهو مطالب بذلك لا محالة.
ومن الجدير بالذكر أن قيمة التسامح تعود بالنفع على الشخص المتسامح قبل أن تعود على غيره، فعلى المستوى النفسي يمثل التسامح قدرة على التحرر من المشاعر السلبية المرهقة مثل الغضب والسخط على الآخرين، والرغبة في الانتقام أو الثأر، مما يعني استمتاع الشخص بحالة من السلام النفسي والشعور بالصفاء والراحة وتحرير مسارات الطاقة لديه من كل ما يعوق تحقق أمنياته وبلوغ أهدافه.
فضلًا عن ذلك فإن مشاعر الغضب والحزن والانكسار وغيره مما يترتب على إساءة الأخرين لنا تستنزف طاقتنا وتستغرق وقتا طويلا من التفكير والجهد، والتي من الأفضل أن نوجهها إلى بناء شخصياتنا والارتقاء بها وتطوير حياتنا.
كذلك يتمتع الشخص المتسامح القادر على تقبل الاعتذار وتفهم نقاط ضعف الآخرين واستيعاب زلاتهم ونقصهم البشري بالحب والاحترام من الآخرين، والتفاف الناس حوله وتمسكهم بصحبته وعشرته وفي هذا ما فيه من السعادة والرضا عن النفس والشعور بالثقة والأهمية.
أما قيمة التسامح وأهميتها للمجتمع فحدث ولا حرج، فالمجتمعات المتسامحة هي مجتمعات راقية ومتحضرة تتمتع بالسلام الداخلي والتوجهات الإيجابية البناءة نحو حياة مستقرة ومليئة بالنجاحات والانجازات، فمجتمع متسامح يعني مجتمع بلا خصومات ولا نزاعات ولا مشاحنات، يعني مجتمع يتقبل فيه البعض البعض الآخر، ويغفر أخطائه ويكون أكثر مرونة وقدرة على تجاوز الصراعات وحسم الخلافات.
أما المجتمعات التي تتسم بغياب قيمة التسامح فتجد الصراعات والخلافات تستنزف طاقة الأفراد والتناحر والتشاجر يأخذ من وقتها الكثير ومن طاقة الشباب الكثير، وتراه مليئا بالعداوة والبغضاء والجور والطغيان، وتراه مفعما بالشر والكل يبحث عن الثأر ويخطط له ويعطيه وقته.
التسامح في الإسلام وحث القرآن والسنة عليه
مما ليس فيه أدنى شك أن ديننا الإسلامي دين التسامح والعفو، وكل القيم الإنسانية النبيلة التي ترتقي بنا وتنقلنا من دركات الجهل والعصبية والخلافات إلى أرقى درجات التحضر والتقدم نحو الأمام.
وسيرتنا الإسلامية العطرة وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مليئة بالمواقف والأحداث التي تتجلى فيها سماحة الإسلام ونبي الإسلام في أرقى وأروع صورها.
وربما موقف واحد من مواقف السيرة العطرة يكفي لإثبات صحة هذا الكلام وقوته وحجته، وينفي كل ما يدعيه أعداء الإسلام، وهو موقف النبي-صلى الله عليه وسلم- من أهل مكة حينما جاء فاتحًا، وقد مكنه الله من قوم قاتلوه وضيقوا عليه الخناق وأخرجوه من أحب البلاد إليه، ولم يقصروا في محاربة دعوته، جاءهم فاتحًا وكان بإمكانه أن يثأر لنفسه ولأصحابه ولدعوته، ولكنه -صلى الله علبه وسلم- آثر أن يضرب مثلا خالدًا للتسامح والعفو عند المقدرة، وقال كلمته الخالدة: ماذا تظنون أني فاعل بكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.
أما حث القرآن الكريم على التسامح فقد جاء في أكثر من موضع، منها قول الله عز جل: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، ومنها قوله في موضع آخر: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}.
كذلك حثت السنة النبوية المطهرة على خلق التسامح ودعت إليه وأصلته لدى المسلمين ومن ذلك ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت في وصف فعل النبي وتسامحه، وعفوه ولين جانبه: ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى.
وقد علمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مفهوم القوة الحقيقي ليس بالقوة البدنية ولا العضلية، ولا تقاس أبدًا بقدرة الإنسان على البطش والانتقام ولا الفتك بغيره، وإنما تكمن في كبح جماح غضبه وكظم غيظه وترك الثأر مع القدرة عليه واستبداله بالعفو والصفح والتسامح، فقال -صلى الله عليه وسلم- في هذا المعني: [ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب].
ولعل السبب في ذلك أن الانسان حين يحب الانتقام يعزز الشيطان تلك الفكرة ويفتح أمامه السبل ويمده بمدد من الأفكار الشيطانية التي تعينه على ذلك، أما حين يفكر في التسامح ويريد العفو فإن نفسه تعانده وشيطانه يغالبه ليثنيه عن تلك الفكرة، ويقعد همته عنها ويصعبها عليه أيما تصعيب، لذا اعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مغالبة النفس والتغلب عليها وترويضها للتنازل عن حقها في الثأر وخاصة مع المقدرة عليه هو قمة القوة والشدة.
وختامًا، فإن التسامح سلوك الراقين والمتحضرين والربانين به يستجلبون عفو الله ومغفرته، ويستحقون رحمته وفضله، ولا تعتبروا أن هذا مجرد موضوع تعبير عن التسامح فحسب، وانما اتخدوه منهجاً.
رائع 🤩
شكرًا لك.