نعم، العنوان موضوع تعبير عن التسامح والعفو لكن المحتوى يعكس الكثير من لعِبر والمواعِظ الجمَّة. فهو خلقٌ كريمٌ علينا -ولكي تقوى شوكتنا وتذهب عنا نزغات الشياطين- أن نتحلى به، حتى تجتمع كلمتنا، أنه خلق الأنبياء والمرسلين، ولا رَيب أن الإسلام دين العفو والتسامح في أسمى معانيه.
خلق العفو في حياة الرسول محمد
ولا نبتعد كثيرًا، فنبينا الأمين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فَعل به قومه ما فعلوه، من طردٍ وتآمر وإهانات وتكذيب ووصف بأسوأ الألفاظ، وطردٍ من البلاد ومحاولات للقتل؛ ويُمَكِّنه الله عام الفتح، وبإمكانه أن يقتل وأن يسبي، ولكن ماذا فعل الرسول الأمين؟
قال -وقد فتح الله عليه مكة-: من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وهكذا عفى الكريم –عليه الصلاة والسلام– في وقت يستطيع فيه الانتصار والانتقام.
العفو عن الناس
إنه خُلق الأنبياء والمرسلين، لأهل التقوى والإحسان، ألا وهو خلق العفو عن الناس، العفو إخوانك المؤمنين. هذا الخُلق الذي به تدخل في عِداد المحسنين، (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس)؛ ما شأنهم؟ (والله يحب المحسنين).
قال -تعالى ذِكره- في كتابه الكريم (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، فأجره موكولٌ إلى الله، هو الذي يُكافِئه.
فالزم هذا الخُلُق الكريم، خلق العفو عن الناس تحظى بمحبة الله لك، أن تدخل في عِداد المُحسنين.
ولقد قال نبيكم الأمين -عليه الصلاة والسلام-؛ يقسم (ثلاثة أُقسم بالله عليهن، ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله). فالزم هذا الجانب، ولا تظن أنك ستُهان بسبب العفو عن الناس؛ بل الله يرفعك ويحفظك ويُعزك.
ويحكي أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سلما فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: ٢٤].
يوسف الصديق يعفو عن إخوته
هذا الخُلق الكريم هو خُلق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فانظر إلى الصديق يوسف وقد فعل به إخوته ما فعلوه، من الأذى والحسد، وآل أمرهم إلى التآمر على قتله ولكن سلم الله. فألقوه في غيابة الجُب، وفرقوا بينه وبين والده، وبِيع في الأسواق بيع العبيد الرقيق، وهكذا تسببوا في عمى أبيهم وذهاب بصره، بطلي ولكن دومًا الأمور ولها نهايات والعاقبة دومًا للتقوى وللمتقين.
أنزله الله بعد أكرم المنازل وأصبح عزيزًا على مصر. وجاء إخوته يقولون (يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين). فيقول (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون)، فيقولون (أإنك لأنت يوسف)، قال (قال أنا يوسف وهذا أخي قد مَن الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). فيقولون (تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين).
لم يطلبوا العفو صراحة، إنما قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين. فيتغاضى عن كل الجرائم التي صُنعت في حقه من إخوته، قائلا (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
عفوٌ عند المقدرة، هكذا يتجاوز عن كل الإساءات. ويأتي أبوه وأمه وإخوته يخرون له ساجدين -سجود التحية- ويقول (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي)؛ لم يقُل وقد أحسن بي إذ أخرجني من البئر حتى لا يسيء إلى إخوته الذين وعدهم قائلا (لا تثريب عليكم)؛ وإنما قال (وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو)؛ وانظر إلى الأدب في قوله (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي)، لم يقل وحقٌ له أن يقول- ولكنه لم يقل من بعد أن ظلمني إخوتي.
واعلم أن قصص عن العفو والتسامح في الإسلام كثيرة، من النبي ﷺ ومن الصحابة -رضي اله عنهم-؛ وتشهد على ذلك الكثير من الأحاديث والآيات القرآنية. والقارئ المُتمعِّن لسيرة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- يجِد القصص التي تُسطر المواقف النبيلة في التاريخ الإسلامي.
التسامح والعفو
لا يُمكِن تخيل كَم الفظاظة والعدوانية في المجتمع إذا ترك الناس خلق التسامح والعفو؛ ولتتخيَّل معي شكل المجتمع والأسَر والعائلات فيما بنيها.
الكثير من المشاكل الأُسريَّة والعائلة وبين الأخ وأخيه والصديق وصديقه يُمكن حَلّها والتغاضي عنها باتباع تعاليم الدين الإسلامي من التسامح والعفو والإصلاح بين الناس.