من أدرك رمضان ولم يغفر له
هنا وقفة يسيرة مع حديث عظيم جليل، أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد والبيهقي وغيرهما، من حديث جابر ابن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي ﷺ رقي المنبر، رقي الدرجة الأولى قال «آمين»، ثم لما رقي الدرجة الثانية قال «آمين»، ثم لما رقي الثالثة قال «آمين». فقالوا: يا رسول الله سمعناك تقول أمين ثلاث مرات، فقال النبي ﷺ «لما رقيت الدرجة الأولى أتاني جبريل ﷺ فقال: شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يغفر له فقلت: آمين، ثم قال: شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، فقلت: آمين، ثم قال: شقي عبد ذكرت عنده ولم يصل عليك، فقلت: آمين».
هذا الحديث العظيم -باللفظ الأول- صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني رحمة الله على الجميع وغيرهم.
وفي لفظٍ في صحيح الترمذي «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة».
شرح الحديث
الداعي هنا هو جبريل “عليه السلام”، أفضل الملائكة على الإطلاق. والمؤَمِّن هو محمد ﷺ، وهو أحب الخلق إلى الله ﷻ. فما هو مضمون الدعاء؟ هو دعاء من جبريل، بالبعد والسحق والشقاء والذل وعدم المغفرة ودخول النار.
تأملوا بالله عليكم هذه الأدعية التي تُفطِّر الفؤاد لو كانت القلوب تعقل.
فهذه الأدعية العظيمة لا شك أنه ليس هناك رجل عاقِل يحب أن يُصيبه دعوة من هذه الدعوات العظيمة، لأنها لا شك ستكون سببا في شقائه في الدنيا وفي الآخرة. لكن المُفرط في رمضان يستحق هذا الدعاء. لماذا؟ لزيادة دواعي الخير في هذا الشهر الكريم، وضُعف دواعي الشر. فقد جاء عند الإمام البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال «إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين». وفي رواية «ونادى مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة».
إذا كانت سُبل الخير ميسرة، وسُبل الشَّر مغلقة، ومع ذلك يتمادى العبد في معصية الله ﷻ، والاجتراء على حدوده ومحارمه، لا شك أنه يستحق هذا الدعاء من جبريل، الذي أمَّن عليه النبي ﷺ. فما بالنا أيها الأحبة الكرام، لا نعقل، ولا نفهم هذه النصوص التي لو نزلت على الحجار والجبال لفطّرتها.
فينبغي للعبد المسلم أن يحذر أن يصيبه دعاء جبريل “عليه السلام”، فربما شقي في الدنيا والآخرة والعياذ بالله.
ولذلك ينبغي للعبد المسلم أن يحرِص في هذا الشهر الكريم -في الجملة- على كل طاعة تقربه إلى الله ﷻ ولا يحاول أن يفرط في ثانية ولا لحظة من اللحظات من هذا الشهر الكريم. فإنه لا يعلم هل يكمل هذا الشهر أم لا يكمله! ولا يعلم إذا أكمل هذا الشهر هل يعود عليه رمضان العام المقبل أو لا يعود!
كيف تقضي رمضان؟
بالله عليكم -والمسؤول مؤتمن على أن يجيب ولو في نفسه- من يقضي نهاره في رمضان في النوم وينام عن الصلوات المكتوبة، وضيّع الصلوات عن أوقاتها والعياذ بالله، ألا يستحق مثل هذا الدعاء؟
من يقضي رمضان في النظر إلى القنوات الفضائية الماجِنة التي تُعرض فيها الأفلام والمسلسلات التي تطعن في مقدساتنا، وفي ثوابتنا وفي أخلاقنا وفي قيمنا ومبادئنا، التي تقدس الغرب الكافر، وتستهزئ بالإسلام وشرائع الإسلام ويستهزئون بالصالحين والمصلحين. يصورون الصالحين والمصلحين على أنهم متطرفين، وعلى أنهم إرهابيين، وعلى أنهم سذج ورجعيين، ويأتون بالمتحرر الذي يطعن في مقدساتنا وثوابتنا، ويصدرونه للأمة على أنه هذا النموذج الذي ينبغي للمسلمين أن يتأسوا به والعياذ بالله.
احذر هذه القنوات الفضائية في رمضان وغير رمضان
ينبغي للعبد المسلم أن يحذر مثل هذه القنوات في رمضان وفي غير رمضان. والله لا يحب المسلم أن يلقى الله ﷻ وقد أدخل بيته مثل هذه القنوات الفاجرة والعياذ بالله. فإنه صح عن النبي ﷺ أنه قال «ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة».
تُدخَل هذه القنوات إلى البيوت ويتربى أبناء المسلمين على المسلسلات والأفلام التي تعرض الرجل والمرأة في قصة حب، ويعرضون -والعياذ بالله- زنا المحارم -أكرمكم الله- ويعرضون فيه من الأفلام التي تستهزئ بديننا وقيمنا وأخلاقنا حتى يتربى جيل يكره الدين ويكره سنة النبي ﷺ ويكره الصالحين والمصلحين. ويتربى جيل -والعياذ بالله- من حل من عقيدته ومبادئه وقيمه وأخلاقه.
فلا ينبغي للعبد المسلم أن يُبقي هذه القنوات في بيته، فوالله إن المسؤولية عظيمة أمام الله ﷻ. النبي ﷺ يقول «كلكم راع ومسؤول عن رعيته؛ فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته. قال: فسمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابا.
المقصود من الصيام
بالله عليكم؛ من يمسك عن الطعام والشراب، ولسانه يثري في أعراض المسلمين، ويطعن في عقائدهم، ويتهمهم في مناهجهم، ويتهمهم في أخلاقهم. هذا لم يفهم الصيام.
فلابد للعبد المسلم أن يعرف أن الصيام عن الأكل والشرب ليس هو المقصود من الصيام، وإنما المقصود من الصيام هو تحقيق التقوى والخوف من الله ﷻ.
ألا تنظر إلى الحرام ولا تتكلم بالحرام، لا تكذب ولا تغتاب ولا تسب ولا تشتم. فقد يصوم الإنسان وليس له من صيامه إلا التعب، وقد يصلي وليس له من صلاته إلا التعب، وقد يقوم الليل وليس له من قيامه إلا التعب، وقد يتلو القرآن ويعمل الكثير والكثير والكثير من الطاعات، ثم هو يوزعها على عباد الله.
من الدروس المستفادة من حديث المفلس
قال النبي ﷺ كما جاء في الحديث الصحيح «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار».
انظر إلى ما يمكن أن تؤدي إليه هذه الأفعال البشعة. فكم من الناس يصلي ويصوم ويزكي؛ لكنه -والعياذ بالله- شتم هذا الشخص أو اغتابه أو ضربه أو سرق ماله أو أخذه منه بغير وجه حق. أو هذه المرأة التي تقذف هذه وتخوض في عِرض هذه؛ هؤلاء ولا حول قوة إلا بالله يجب أن يتداركوا ما بقي من أفعالهم وأقوالهم حتى لا يجدون صحائفهم يوم القيامة مع الذين حبطت أعمالهم.
احفظوا جوارحكم
وقد أثنى الصحابة -رضي الله عنهم- على امرأة ماتت وذكروا من قيامها وصلاتها وأعمالها للبر الشيء الكثير، فقال النبي ﷺ «هي في النار». إنها كانت تؤذي جاراتها والعياذ بالله.
فينبغي للعبد المسلم أن يحذر كل الحذر وأن يمسك عليه جوارحه وأن يستخدم جوارحه في طاعة الله ﷻ ومرضاته. فإنه مسؤول عن هذه الجوارح التي أنعم الله به عليها، فغيرنا لا يسمع وغيرنا لا يرى، وغيرنا لا يستطيع أن يعبر عما في مكنونه وعن مشاعره. فنحن أكرمنا الله بهذه الجوارح، ينبغي لنا أن نوقفها في طاعة الله ﷻ، حتى يبارك الله لنا فيها. ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
لقد بلغكم الله شهر رمضان.. فاشكروا هذه النعمة
ينبغي للعبد المسلم أن يحرص على هذا الشهر الكريم. والله إن أهل القبور اليوم يتمنون أن يرجعون للدنيا من أجل تسبيحة واحدة، ونحن اليوم نتمتع بهذه الحياة التي أكرمنا الله بها وبلغنا هذا الشهر الكريم. كم نعرف من إخواننا وأصدقائنا وجيراننا وأهلنا وأقاربنا قد حال الموت بينهم وبين بلوغ هذا الشهر الكريم، فنحن بلغنا الله -جل وعلا- وهذه نعمة والله قل من يعرفها؛ أن يبلغك الله هذا الشهر الكريم.
فينبغي لنا أن نشكر الله ﷻ بألسنتنا وبقلوبنا وبجوارحنا أن بلغنا الله هذا الشهر الكريم. فنحن والله في أكبر نعمة.
فنسأل الله ﷻ أن ييسر لنا ولكم صيام هذا الشهر على الوجه الذي يرضيه عنا.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب — حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما — فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهداً — فإنه شهر تسبيح وقرآن
واحمل على جسدٍ ترجو النجاة له — فسوف تضرم أجساد بنيران
كم كنت تعرف ممن صام في سلفٍ — من بين أهل وإخوان وجيران
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمُ — حيا فما أقرب القاصي من الداني
ومعجب بثياب العيد يقطعها — فأصبحت في غد أثواب أكفان
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه — مصير مسكنه قبر لإنسان
أدعية طيبة وجميلة
نسأل الله ﷻ أن يصلح أحوالنا وأحوال إخواننا المسلمين في كل مكان، كما أساله -جل في علاه- أن يوفقنا وإياكم لصيام هذا الشهر وقيامه على الوجه الذي يرضيه عنا.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تعيننا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا رب العالمين. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم إنا نسألك برحمتك التي وسعت كل شيء، ألا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك بعزتك وجلالك وعظمتك وكمالك وقدرتك أن تكفينا في أعداء الدين بما شئت يا رب العالمين.
اللهم اكفنا في المفسدين بما شئت يا رب العالمين.
اللهم من أراد شبابنا ونساءنا وفتياتنا وبلادنا بسوء، اللهم فأشغله في نفسه، ورد كيده في نحره يا رب العالمين.
اللهم اكفنا في المفسدين بما شئت، اللهم اكفنا في أعداء الدين بما شئت، اللهم وأرهم من عز الصالحين والمصلحين ما يموتون به غيظا وكمدا يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن كما جمعتنا في هذا المكان الطيب الطاهر المبارك، فاجمعنا في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على الرسول الأمين.