رفع الله قدر العلماء وأعلى منزلتهم وجعل لهم حقوقاً على الناس نظير ما منَّ الله عليهم به من العلم الشرعي الذي هو سبيل الهداية وسبب السلام والاستقامة على دين الله ﷻ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. ومن هنا كان لزاماً على الأمة أن تعرف للعالم قدره وتعطيه حقوقه.
مكانة العلم والعلماء في القرآن الكريم
وحول مكانة العلم والعلماء يقول الشيخ د. فهد ابن عبدالله التويجري مدير المكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات بالنسيم بالرياض إمام وخطيب جامع عقيل الراجحي: للعلم والعلماء مكانة عظيمة في ديننا الإسلامي، ولذلك كانت أول الآيات نزولاً في القرآن الكريم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.
ولفضيلة العلم أمر ﷻ نبيه ﷺ بالازدياد منه خاصة دون غيره.
وقال قتادة: لو اكتفى أحد من العلم لاكتفى نبي الله موسى -عليه السلام- ولم يقل للخضر: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}.
وميّز ﷻ بين أهل العلم وغيرهم فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الْأَلْبَابِ}.
ويشير د. التويجري إلى أن ما يدل على فضل العلم، وشرف العلماء وفضلهم قوله ﷻ: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُو الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. فلو كان أحد أشرف من العلماء، لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء.
ومما يدل على فضل العلم والعلماء قوله ﷻ: {يَرْفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. يرفعهم في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا.
وأمر بالرجوع إليهم فيما أشكل، فقال ﷻ: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
وأوجب الله ﷻ طاعة العلماء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}. وعن أولي الأمر يقول الرازي في تفسيره: “والمراد من أولي الأمر العلماء في أصح الأقوال”، وقال بعض المفسرين: أولو الأمر الأمراء والعلماء. قال ابن تيمية – رحمه الله: “أولو الأمر صنفان: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صَلَحَ الناس، وإذا فسدوا فسد الناس”.
مكانة العلماء في السنَّة
وعن مكانة العلماء في السنَّة النبوية قال الشيخ أحمد الناجم: سنَّة رسول الله ملأى بالثناء على العلماء والحثِّ على توقيرهم واحترامهم؛ لعظم العلم الذي قام بهم، ولشرف العلم الذي وَقرَ في أفئدتهم.
فمن ذلك ما رواه الشيخان عن معاوية قال: سمعت رسول الله يقول: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» والفقه هنا هو العلم المستلزم للعمل، فدل الحديث على أن من أراد الله ﷻ به خيراً وفقه لهذا الفقه ويسره له، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيراً» وهذا هو مقام العلماء.
ومما ورد في ذلك أيضاً: ما رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله يقول: «من سلك طريقاً يبتغي به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر».
قال ابن قيم الجوزية في مفتاح دار السعادة هذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير خلق الله فورثتهم خير الخلق بعدهم ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحق الناس بميراثهم؛ وفي هذا تنبيه على أنهم أقرب الناس إليهم فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدينار والدرهم فكذلك هو في ميراث النبوة والله يختص برحمته من يشاء.
ومن أوجه بيان فضل العلماء في هذا الحديث أن الملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم بما يصنع، وهنا لا شك أمر عظيم.
فضل العلماء عند السلف
ويذكر الشيخ د. فهد التويجري أقوال السلف في العلماء فيقول: قال ابن القيم: «العلماء هم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب».
والعلماء كما قال ابن القيم: «يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم».
والعلماء مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وحجة الله في أرضه، بهم تمحق الضلالة من الأفكار وتنقشع غيوم الشك من القلوب والنفوس، فهم غيظ الشيطان وركيزة الإيمان وقوام الأمة.
يقول الإمام أحمد رحمه الله ﷻ: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس.
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: «العلماء أرحم بأمة محمد ﷺ من آبائهم وأمهاتهم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من الدنيا، وهم – أي: العلماء – يحفظونهم من نار الآخرة».
أمة بلا علماء كجسد بلا روح، ومركب بلا شراع؛ أمة بلا علماء كجيش بلا قائد، ومقاتل بلا سلاح. فلنعرف للعلماء قدرهم، ولنعطهم حقهم، ولنحذر من منابذتهم أو إساءة الظن بهم، فإن ذلك باب الهلاك وعتبة الخسران، علينا أن نتابعهم من غير تقليد، ونحترمهم من غير تقديس.
من هو العالم؟
وحول تحديد المفهوم الصحيح لمن يطلق عليه لفظ العالم يقول الشيخ أحمد الناجم: وهذه النقطة من الأهمية بمكان؛ إذ بسبب عدم إدراكها من الكثيرين تخلل صفوف العلماء من ليس منهم، فوقعت الفوضى العلمية التي نتجرع الآن غصصها، ونشاهد مآسيها بين آونة وأخرى.
إن من يستحق أن يطلق عليه لفظ العالم في هذا الزمن قليل جداً، ولا نبالغ إن قلنا نادر، وذلك أن للعالم صفات قد لا ينطبق كثير منها على أكثر من ينتسب إلى العلم اليوم.
فليس العالم من كان فصيحاً بليغاً، بليغاً في خطبه، بليغاً في محاضراته، ونحو ذلك، وليس العالم من ألف كتاباً، أو نشر مؤلفاً، أو حقق مخطوطة وخرجها؛ لأن وزن العالم بهذه الأمور فحسب هو المترسب وللأسف في كثير من أذهان العامة، وبذلك انخدع العامة بالكثير من الفصحاء والكتاب غير العلماء، فأصبحوا محل إعجابهم، وهذا الاغترار- للأسف جذوره قديمة جداً، وليست حادثة جديدة، ولذلك نرى ابن بطة العكبري المتوفى سنة 783 هـ يؤكد هذه القضية في كتابه إبطال الحيل فيقول: «فإني أرى هذا الاسم قد كثر المتسمون به من عامة الناس وكافتهم، وما ذاك إلا لأن البصائر قد عشيت والأفهام قد صدئت وأبهمت عن معنى الفقه ما هو، والفقيه من هو، فهم يعولون على الاسم دون المعنى، وعلى المنظر دون الجوهر».
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله ﷻ- المتوفى سنة 684 هـ في كتابه القيم النافع فضل علم السلف على علم الخلف، راداً به على من اغتر بكثرة الكلام، وعَدّها معياراً للعالم، يقول رحمه الله ﷻ: «وقد ابتلينا بجهلة من الناس، يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم؛ لكثرة بيانه ومقاله.. وهذا تنقّص عظيم بالسلف الصالح، وإساءة ظن بهم، ونسبتهم إلى الجهل وقصور العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله». ثم ذكر أثر ابن مسعود وفيه أنه قال: «إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه، وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه، فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم».
بقلم: د. عقيل العقيل