ليس كل من في القبور طواهم الزمن بين صفحات الذكرى، بل منهم من لا يفارق عقلنا، ولا يأبى عن الخروج من قلوبنا، يُدمى الفؤاد لفقده، ولكن يستمد شيئًا من التعزية، لأن على ملابسه دماء التضحية من أجل الوطن، دماء هي فداء لكل نفر من المجتمع. إننا وإن طال الزمان، وتقلبت الأحوال، وعم السلام، أو نُشبت الحروب، لا ننسى أبدًا شهداءنا، ويظل تكريمهم في قلوبنا قبل أي تكريم مادي، إذا ذكرناهم، فإنا لا نذكرهم سوى بالخير، ونأمل أن يمتلئ الوطن بمن لديهم مثل روحهم، روح الافتداء من أجل الوطن، روح المحبة الخالصة لأرض الوطن، والدفاع عنها حتى الرمق الأخير.
ومكانتهم الكبيرة لا تقتصر عن تلك المكانة الذين حظوا بها في داخل نفوسنا، بل مكانتهم عند الله مرتفعة أيما ارتفاع، يدخلون الجنة بدون حساب، ولا رزق قد يأمله الإنسان أكبر من هذا الرزق، فالإنسان دائمًا من يدعو الله أن يرزقه الشهادة، لكن الله يصطفي من عباده من هم أهل الشهادة؛ فالشهادة تكريم من الله للإنسان، ومنزلة الشهيد شاهقة عند الله وفي نفوس كل الناس.
إننا ننام في منازلنا، ونحن نأمن حدودنا، وتطمئن قلوبنا، لا يسارونا قلق، ولا يغشى عقلنا أرق، لذلك نحن ندين للشهداء بهذا التكريم، فهو حقهم، وحقهم هذا نحفظه لهم في حياتهم وبعد استشهادهم.
منزلة الشهيد
في المقال سأوجز القول حول (يوم الشهيد) ومناسبته، وسأروي القصة التي تعد رمزًا للتضحية التي يمكن أن يقدمها الشهيد للوطن، والفداء الذي يفتدي به الوطن وأهله. إن الشهيد حين يدب قدميه وسلاحه في أرض الوطن متأهبًا مستعدًا أن يقف سدًا منيعًا أمام كل مغتصب يهدد أمن الوطن وأهله.
بعد انتصار حرب أكتوبر، تم اختيار يوم التاسع من شهر مارس ليكون يوم الشهيد (٩ مارس)، يوم تكريمه، وتذكره، والفرح لأجله، وكان سبب إقامة يومًا للشهيد إحياءً لذكرى رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، الشهيد عبد المنعم رياض، الذي قدم بتضحيته رمزًا لكل شهيد يقبل على التضحية بقدميه من أجل وطنه، فداءً له، وحفاظًا على أمنه من كل عدو مغتصب.
الشهيد عبد المنعم رياض
إن الوطن حافل بالشهداء، الذين يقدمون تضحيتهم دون مقابل، ويقدمون على الشهادة بصدر رحب، وشجاعة كبيرة، وإنا نذكرهم ولا يمكن أن ننساهم، كل شهيد له قصة تُروى ولا يشبع المرء من روايتها، وغالبًا ما اتصف الشهيد بين أهله بالوفاء والإخلاص، والمحبة الشديدة من أهله وكل أقاربه، وبالتأكيد كان له عند الله محبة خاصة، لطيب نفسه، ونقاء روحه.
وفي السطور القليلة الآتية، رواية لقصة استشهاد عبد المنعم رياض، الذي يعد رمزًا لكل الشهداء، ففي تضحيته كأنما يخط بيديه رواية كل شهيد، كيف أقبل على الاستشهاد بصدر رحب، وروح سمحة، لا يهمه شيء سوى مصلحة الوطن، والدفاع عن أهله من كل عدو مغتصب.
كان الفريق عبد المنعم رياض بطلًا قد شارك في كثير من المعارك، منها حرب فلسطين، والعدوان الثلاثي على مصر، وحرب الاستنزاف، حينما قرر أن يشارك الجنود وجودهم على الجبهة.
وحين تواجد على الجبهة قرر أن يزور موقعًا لم يكن يبعد عن مرمى الإسرائليين سوى مسافة مقدارها ٢٥٠ مترًا، وفي هذه اللحظة انهالت النيران الإسرائيلية على المنطقة التي يقف فيها الفريق عبد المنعم رياض، انتقامًا من المصريين بعدما أنزلوا عليهم خسائر فادحة آنفًا، وانفجرت إحدى طلقات المدفعية بالقرب منه، ومات الشهيد عبد المنعم رياض على أثر إصاباته في المستشفى، وبعد ذلك خصص يوم التاسع من مارس يومًا للشهيد إحياءً لذكرى الفريق عبد المنعم رياض، الذي لم يفضل الاختباء في الصفوف الخلفية في حين يتعرض الجنود للموت والدمار في كل البقاع والمواقع، بل فضل أن يكون من بينهم، يستمدوا منه شجاعتهم، ويتقون بقوته، ويبعث فيهم روحه القوية العازمة على تحقيق النصر مهما كلفهم الأمر.
ومن قصة الفريق عبد المنعم رياض، تنبثق الآلاف من القصص التي لا يتسع لها المجال لتروى، لكنها حية في قلوبنا ونفوسنا لا تموت، ولا ننساها، ولا ننسى أصحابها، بل إننا نشيد بها، ونتمنى أن تكون لنا قصة كتلك القصص العظيمة، يتشرف بها الناس والأهالي فيما بينهم، ويرتفع بها الرأس بين الأوطان، وننال بها الجنة دون حساب.
ومن قصته نرى معنى التضحية في أسمى معانيها، فالشهيد حين يقبل على التضحية لا ينتظر كلامًا أو تكريمًا أو أي مقابلًا، لا يشغله في هذا الوقت، حيث صدى الطلقات والنيران في كل اتجاه، سوى أن يدافع عن وطنه باستماتة، يقابل العدو بوجهه ولا يولي الأدبار عنه، بل يقابله ويتقاتل معه بمنطق (يا قاتل يا مقتول)، وسواء كان قاتلًا أو مقتولًا، فهو مكرم عندنا، ولا تنتقص شهادته من شجاعته شيء، بل الجبان فقط هو من يُنتقص من شجاعته، ويصير منبوذًا بين الناس.
إن قصص الشرف والعزة والكرامة التي تحظى بها البلد بين سائر البلاد هي نتاج الشجاعة والبسالة التي يقدم عليها الجندي في الحرب، وهو يدب قدميه في تراب الأرض متقدمًا بعزمٍ وإصرار دون أن يردعه خوف، أو يوقفه جبنٌ، بل يسابق الريح، ويصد هواه ويغالب نفسه، ويكون شعاره دائمًا إما النصر أو الشهادة.
والشهيد في الإسلام يحظى بمكانة عالية وفضائل لا تكون لسواه، قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم” (إنَّ للشّهيدِ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ سِتَّ خِصالٍ: أن يُغفَرَ له في أولِ دَفعةٍ من دمِه، ويَرى مقعدَه من الجنَّةِ، ويُحَلَّى حُلَّةَ الإيمانِ، ويُزَوَّجَ من الحُورِ العِينِ، ويُجارَ من عذابِ القبرِ، ويأمنَ من الفزعِ الأكبرِ، ويُوضَعَ على رأسِه تاجُ الوَقارِ الياقوتةُ منه خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ويُزَوَّجَ ثِنتَينِ وسبعينَ زوجةً من الحُورِ العِينِ، ويُشَفَّعَ في سبعينَ إنسانًا من أقاربِه).
وقال “تعالى” في سورة آل عمران: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا أتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).
وبذلك فإن الشهيد له مكانته العالية في القرآن والسنة، والمراتب التي يحظى بها في الجنة لا يحظى بها سواه، فالله اختصه بكل الخير، ويدخل الجنة في النهاية دون حساب.
ويبقى لنا أن نتساءل، ماذا يمكن أن نقدمه للشهيد حتى نخلد ذكراه في كل الأيام، لا في يوم واحد فقط من العام؟
وأقول: لكي نخلد ذكرى الشهيد دائمًا علينا أن نستمر في تكريمه، في كل الأوقات وبكل مظاهر التكريم، بالإغداق على أهله بالعطايا والهبات، المعنوية أكثر منها المادية، التي تجعل الأهالي يفتخرون أكثر بشهيدهم، ويوقنون أنهم خلفوا ابنًا صالحًا لم يمت، بل هو حي في القلوب، ولا يزول من العقول.
لكي نكرم الشهيد، علينا أن نفتخر باسمه، نصنع لمن لهم أعمالًا بطولية التماثيل، ونسمي الشوارع تيمنًا بهم، وكذلك في المدارس نسميها على اسمهم تكريمًا لهم، حتى لا ننساهم، وتظل ذكراهم حية في كل جنب من الحياة.