إن كثيرًا من الشباب، في مقتبل العمر، يتعرضون لأوقات الفراغ، أوقات يقضونها للترفيه عن أنفسهم، فيعرف هذا الوقت لديهم بوقت اللذة، يبتعدون فيه عن دراستهم، أو أي شيء يفعلونه بشكل واجب كل يوم وروتيني، ليقضوا هذا الوقت فيما يمتع نفوسهم، ويرضون هواياتهم بشكل أخص، سواء عادت عليهم بالنفع أو بالضرر، فهذا الوقت يعدونه غير محسوب من عمرهم.
وقت الفراغ قد يكون مقبرة يدفن فيها الإنسان نفسه، فلا يفعل فيه أي شيء نافع، بل يرضي حاجاته الجسدية من النوم، واللعب، وغيرها. أو قد يكون نافذة صغيرة تنفتح على عالم جديد من التطور والمستقبل الواعد.
ولذلك فإن المقارنة واجبة، بين واحد ينتظر وقت فراغه حتى يقضيه فيما يفيد لذته، ولهوه فقط، وآخر ينتظر وقت فراغه حتى يطور من نفسه، ويخرج نفسه من الروتين الذي فرضه عليه الأيام، أو يصنع مستقبلًا أفضل لنفسه، يهيء به حياته القادمة، فيجعلها أفضل، وأكثر تحسنًا من معيشته الحالية.
وقت الفراغ كالوعاء الفارغ، إما أن تملأه بشيء يفيد صحتك، وحياتك أو تملأه بشيء تلقيه في حوض الاستحمام آخر اليوم.
وإني لا أشير في كلامي أن الإنسان لابد أن يجعل حياته كلها تطويرًا وأهدافًا وغايات عالية، ويخلو يومه من اللهو قليلًا، يستعيد فيه رباطة جأشه، إنما مقصدي أن الإنسان لا يقضي كل وقت الفراغ في اللهو، حتى لا يرهق جسده إرهاقًا يزيد عن الحد، ويضيع الوقت الذي بين يديه، بل عليه أن يوازن بين أوقات اللعب أو ممارسة الهوايات أيًا كان شكلها، والأوقات التي يجب أن يفنيها في التطور والاستذكار للمستقبل، حتى يصير إنسانًا أفضل فيما بعد.
ومن هنا أنتقل إلى الكيفية التي يجب أن يستغل بها الإنسان وقت فراغه:
كيف نستغل أوقات فراغنا؟
وأقول: لكي يستغل الإنسان وقت فراغه على أتم وجه، لابد أن يضع في حسبانه أن يكون هو المتحكم الأول في الوقت الذي يمر عليه، فإذا افترضنا أن لدى الإنسان يومًا كاملًا مكونًا من أربعة وعشرين ساعة يبتعد فيها عن مذاكرته، أو عمله الذي يفني فيه جل أوقات أيامه، فيتعين على هذا الإنسان أن يكون متحكمًا في تلك الأربع وعشرين ساعة، ولا يأخذه الوقت في الهوى، بل يضبط نفسه قدر المستطاع، وهذا الفعل ليس من اليسير على الإنسان أن يقوم به، لكنه بالمران يصبح عادة.
والإنسان لكي يتحكم في الوقت الذي يملكه، لابد أن يمتلك الشجاعة، لابد أن يحسب كل دقيقة من هذا الوقت، بل كل دقيقة من حياته، فيما يجب أن يفنيه فيه، يجب أن يضع أولوياته نصب عينيه، ويحسب الوقت الذي سيقضي فيه كل أولوية من أولوياته، ويهب الفواصل بين كل عمل يريد أن يقوم به للعب والترفيه قليلًا عن النفس، وهكذا يخرج من اليوم الذي بين يديه كسبانًا، لا هو مضيعه ولا هو مرهق فيه نفسه وجسده أكثر من إرهاقها.
وطريقة أخرى تجعل الإنسان يتحكم تحكمًا كاملًا في أوقاته، ألا ينجرف مع شلال هواه، أو يوافق الأصدقاء والأهالي في كل شيء يطلبونه، يجب أن يتعلم أن يقول (لأ) لكن بطريقة لبقة لا تجرح خاطر أحدًا، يجب أن يرفض كل ما يعرض عليه من مظاهر الانشغال عما هو مخطط له، ألا يندفع وراء إلحاح أصدقائه للخروج طول اليوم، فالوقت الذي يقضيه في الخروج برفقة أصدقائه هو لن يضيع منهم، بل يضيع منه، هو الذي وضع أمامه أهدافًا، ويريد أن يحققها، يجب أن يضحي الإنسان بقليل من الأشياء في حياته حتى يتسنى له تحقيق هدفًا يريد أن يحققه، ولا وقت لتحقيقه سوى في هذا الوقت الفارغ.
ولكي لا يضيع وقت الفراغ بين التشتت، ووضع أمورًا كثيرة في خزينة اليوم نريد أن نفعلها، وينتهي اليوم أو وقت الفراغ دون أن نفعل من تلك الأمور شيئًا، ونصاب بإحباط شديد، يجب أن نتعلم كيف نحدد أهدافنا، وإذا تعلمنا كيف نحدد أهدافنا في حيز الوقت المتاح لنا، فإن الأمور التي هدفنا إليها تكون واضحة أمام أعيننا، ولا يتبقى سوى البدء في تنفيذها، خطوة خطوة.
الخطوة الأولى: تحديد الغاية الكبرى
والغاية الكبرى هي ما نريد أن نصل إليه في المستقبل، سواء القريب أو البعيد، إننا فقط نفكر فيه ونضعه في عقلنا الباطن، فلا ننساه أبدًا، بل نجعل كل أهدافنا وخطواتنا لأجل خدمة هذه الغاية الكبرى. فمثلًا: إنسان يريد أن يصبح كاتبًا، هذه هي الغاية الكبرى التي يريد أن يصل إليها في مستقبله، لكن ما يجب أن يشغله هو كيفية الوصول إلى هذه الغاية.
الخطوة الثانية: أهداف على درب الغاية
إن الإنسان بعدما حدد الغاية الكبرى، يبدأ في تحديد أهدافًا واضحة، تعد خطوات منطقية للوصول إلى هذه الغاية، فالذي يريد أن يصبح كاتبًا مثلًا، يضع هدفًا بأن يكتب في اليوم صفحة مثلًا، في الوقت الفارغ لديه، وهكذا يزيد مستواه في الكتابة حتى يصبح ما يريد في المستقبل.
الخطوة الثالثة: تقسيم الأهداف
إن الأهداف تكون في عادتها شيء كبير، ككتلة واحدة ضخمة، يصعب على الإنسان أن ينفذها في اليوم مرة واحدة، لذا فعليه أن يقسم هذه الأهداف على الأيام، تقسيمات صغيرة، ينهي في اليوم جزء من الهدف المحدد له إنهائه في الأسبوع، ويكون ما حققه في الأسبوع جزء من هدف أكبر لابد أن يصل إليه في الشهر، وما حققه في الشهر، جزء أكبر من الأهداف التي يجب أن يحققها في السنة، وهكذا حتى ينتهي الإنسان عند غايته.
في تجربة عملية قام بها أستاذ جامعي أمام طلابه في الكيفية التي يجب أن يستغلوا بها أوقاتهم، أتى بزجاجة فارغة، وبدأ يضع فيها أحجارًا كبيرة الحجم، فامتلأت الزجاجة ببضع حجرات كبيرة، وخلفت فراغات بين كل حجر والآخر. فأتى الأستاذ بأحجار أقل حجمًا، فملأ بها بعض الفراغ الذي خلفته الأحجار الكبيرة الحجم، وفي النهاية أتى بتراب، الذي يكون دقيق الحبة، وملأ بها الزجاجة كلها وتخلل الرمل كل الفراغات الموجودة في الزجاجة.
هل عرفت ما أريد أن أوصله؟ يجب أن يتحكم أولًا الإنسان في وقته إلى أقصى حد، ثم يبدأ في تنفيذ أولوياته، من الأمور الكبيرة التي يريد أن يحققها أولًا، والتي تكون مفروضة عليه تحقيقها، من الأعمال، والواجبات، والمذاكرة المفروضة وغيرها، ثم يبدأ الإنسان يضع الأهداف التي جزأها في أوقات فراغه، حتى يحقق من وقته أقصى استفادة ممكنة.
ولا يتقاعس الإنسان عن تحقيق تلك الأمور الصغيرة، فالمهمة التي يقوم بها الإنسان في تطوير أي شيء في شخصيته أو مجال يحب أن يتطور فيه، ولو كان لمدة ربع ساعة فقط في اليوم، أو ساعة واحدة فقط في الأسبوع، فإن صداها يُسمع بعد ذلك في المستقبل في شخصيته ومسيرة تطوره، فلا يغتر بقلة ما يتعلمه، فالعمل القليل الدائم، خير من عمل كبير غير دائم، وخير من ألا تعمل مطلقًا، أليس كذلك؟
وفي النهاية أحب أن أوضح، أننا في عصر التكنولوجيا، أصبحت الحياة سريعة الخطى، لا تنتظر أحدًا، فأنت إن تنجح، أو تسقط في هوة الفشل، فابدأ من الآن، املأ وقت فراغك، واصنع لنفسك مستقبلًا يضمن لك معيشة أفضل.