إن الإنسان في حياته لابد أن يتخذ لنفسه قدوة يتعلم منها ويتخلق بأخلاقها، وتكون القدوة حسنة في حياته، تدفعه لأن يكون في يوم من الأيام قدوة لغيره؛ واتخاذ الإنسان لنفسه قدوة في الحياة لها العديد من الفوائد: كأن يجد الإنسان لنفسه مرجعًا بشريًا يأخذ برأيه وهو يعلم جيدًا أن قدوته لن يضيعه أو يقول له شيء عن جهل، بل سيلتزم الحكمة في تأدية النصيحة.
والقدوة تجعل الإنسان واثقًا من نفسه أمام الآخرين، لأنه يستطيع أن يرى صورة لنفسه في شخص آخر، غير أن القدوة لها أهمية كبيرة في أن يتمكن الإنسان من تحديد هدفه؛ فالإنسان الذي لديه قدوة يحذو حذوها في الغالب يهدف إلى نفس الهدف الذي توصل إليه قدوته أو شيء قريب منه.
غير أن القدوة الحسنة تساهم في تربية الإنسان تربية صالحة، عن طريق غرس الأخلاقيات الجميلة في نفسه، وبالتالي ينشأ الإنسان الذي اختار قدوته على المنطق الحسن صاحب عزيمة وإصرار وقدرة على النجاح.
غير أن وجود أشخاص ذا قدوة في المجتمع، وآخرين يتعلمون منهم، ويصبحون في يوم ما قدوة لغيرهم، ذلك كفيل أن يقيم المجتمع، ويساهم في بنائه بناءً حضاريًا يتسم بالرقي والأخلاقيات السامية، والسلوكيات الحسنة.
القدوة وأنواعها
أولًا: القدوة هو الشخص الذي يمكن أن يتابعه إنسان أو مجموعة أفراد ويتخلقون بأخلاقه، ويقلدون فعله، لذلك يجب أن يتسم الشخص صاحب القدوة بالعديد من الصفات الجميلة على المستويات كافة: الدينية، والعلمية، والعقلية، والثقافية، والاجتماعية.
وعلى ذلك نرى أن الوصول إلى مرتبة القدوة لا يتأتى بسهولة أبدًا، بل يتطلب الكثير من المثابرة والحرص على تربية النفس، وإكسابها الحكمة، والأخلاق الفاضلة، إلى جانب الصفات العملية.
ولا نغفل أن القدوة قد تكون حسنة أو سيئة، كالصديق تمامًا، فكما يوجد صديق خير، يوجد صديق السوء، وكما الإنسان يُعرف بخليله، فإنه يُعرف أيضًا بقدوته.
فالرجل العصامي الشريف الذي بنى ماله وممتلكاته من عرق جبينه، بالتأكيد قدوته حسنة صالحة علمته المثابرة والاجتهاد إلى جانب المهارات العملية التي احتاجها لبناء نجاحه.
والرجل الذي اشتغل في السرقة، لابد أن تكون قدوته أيضًا رجل يعمل في السرقة، وذلك أبسط مثال يمكن أن نقدمه للقدوة الحسنة والقدوة السيئة.
لكن لابد أن نراعي أن أسوأ نوع من القدوة السيئة، أولئك الأشخاص الذين يبدون في مظهر القدوة الحسنة، لكن في داخلهم فساد كبير قادر على أن يهدم البلاد ويشعل الحروب، لما في دواخلهم من الحقد والغضب والخسة.
لذلك لابد أن نراعي جيدًا ونتحرى العديد من الأمور والصفات في نفس القدوة التي نتخذها، وذلك عن طريق المواقف التي تقيس مدى صدق داخله.
وبعد أن أوضحت اهمية أن يكون للإنسان قدوة، ومعنى القدوة وأنواعها، نلقي الضوء قليلًا عن خير قدوة مرت علينا في الزمن، وهو الرسول “صلى الله عليه وسلم” ومن بعده الصحابة “رضي الله عنهم” والتابعين، ثم ننظر قليلًا، ومن خلال ما نستنبطه في صفات الرسول “صلى الله عليه وسلم” والصحابة، في صفات القدوة الحسنة التي يجب أن يتحلى بها الإنسان حتى يتمكن من الوصول إلى هذه المرتبة في يوم من الأيام بفضل الله عليه.
الرسول “صلى الله عليه وسلم” قدوة
قال “تعالى”: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
فالرسول “صلى الله عليه وسلم” خير قدوة يقتدي به الإنسان في كل شئون حياته، والإنسان لابد أن يتعلم من المواقف التي وُضع فيها الرسول “صلى الله عليه وسلم” وكان رأيه فيها سديدًا متحلي بالأخلاق القويمة، والعدل والسماحة واللين.
الرسول “صلى الله عليه وسلم” قد بعث في الناس ليتمم فيهم مكارم الأخلاق، تلك المكارم التي تقوم على مبادئ الود والإخاء والتسامح والمغفرة، والعقل الراجح، والرأي السديد، والنظرة الثاقبة في الأمور، والعمل الدائم من أجل الله “سبحانه وتعالى” بالنفس والمال والعبادات المفروضة على المسلم.
ورغم أن الرسول “صلى الله عليه وسلم” كان معصومًا من الخطأ، فإنه كان يستشير أصحابه في كل شاردة وواردة ويوازن بعقله الأمور ويفعل ما فيه الصلاح للأمة الإسلامية كلها، لذلك أحبه الصحابة وافتدوه بأنفسهم، وكان للأنصار دور لا يمكن الإغفال عنه في نصرة الرسول “صلى الله عليه وسلم” حين قرر الهجرة إلى المدينة المنورة (يثرب)، وحين عزم على غزواته التي استرد بها عزة الإسلام والمسلمين.
الصحابة “رضي الله عنهم” قدوة حسنة
والصحابة في المرتبة الثانية بعد الرسول “صلى الله عليه وسلم” في تلك المكانة العظيمة، إذ يجب أن يتخذهم الإنسان قدوته في كل شئون حياته، وأن ينظر في أعمالهم وأخلاقهم، ويقرأ سيرتهم ويسير على دربهم.
انظر إلى صدق أبي بكر الصديق، وقوة وعدل عمر بن الخطاب، وحياء عثمان بن عفان، وغيرهم من الصحابة “رضي الله عنهم أجمعين، انظر كيف كان لهم آراء سديدة، وكيف استطاعوا أن يزيدوا من رقعة الدولة الإسلامية من بعد الرسول “صلى الله عليه وسلم” فلم يسعوا إلى مال ولا جاه أو سلطان، إنما سعوا في المقام الأول إلى إعلاء كلمة الإسلام، تلك الكلمة العظيمة التي آمنوا بها وأرادوا نشرها في كل بقاع الأرض، بما يحمله الإسلام من التسامح والعدل ورغد العيش والمحبة والإيخاء، انظر إلى أعمالهم الجليلة التي تدب في النفوس العزة والقوة، كل ذلك يجعل من الصحابة قدوة حسنة نتخذها بعد الرسول “صلى الله عليه وسلم”، ونحذو حذوها ونشعر تجاهها بالعظمة، ونتعاهد في دواخلنا أن نحافظ على ذلك الإرث العظيم الذي ورثه إلينا الرسول “صلى الله عليه وسلم” والصحابة “رضي الله عنهم” والتابعين من بعدهم.
صفات أصحاب القدوة الحسنة
والآن نقف قليلًا على بعض الصفات التي يجب أن نلتمسها في أصحاب القدوة الحسنة حتى نطمئن لهم ولعقولهم وقلوبهم، ونتخذهم قدوة لنا في كل أمور حياتنا.
- أول تلك الصفات: أن يكون صاحب القدوة له معتقد ديني راسخ، أي متدينًا لا يخضع إلا لله “سبحانه وتعالى” ولا يتذلل إلا له، ويؤمن بكل ما يجب أن يؤمن به، أي يكون في قلبه أركان الإيمان، وأن يكون محافظًا على الأخلاقيات الإسلامية والعبادات الجليلة، ويؤديها بحكمة وشعور عميق من قلبه، ولا يكون مستهتر بها، فإن التدين هو ما يصنع الرجل.
- ثاني تلك الصفات: أخلاقه: إذ يجب أن يكون صاحب القدوة الحسنة ذا أخلاق كريمة حميدة بين الناس، لا يرضى أبدًا بالظلم لأحد، أو يفعل ما لا يقبله الآخرين منه، لا يسب ولا يغضب لكل شيء، ولا يتعصب لرأيه، ولا يتنمر على الآخرين، ويكون صدره رحب لكل من حوله، ويعلم جيدًا كيف يكون لبقًا في حديثه، يقول الكلمة الطيبة دائمًا .. إلى آخر تلك الصفات الحميدة التي يجب أن يتحلى بها صاحب القدوة الحسنة.
- ثالث تلك الصفات: المستوى العقلي والعلمي: إذ يجب أن يكون صاحب القدوة ذا مستوى علمي، يشغله تخصصًا بعينه ويسعى فيه إلى النجاح ويكون محققًا فيه بعض النجاحات الجليلة، إذ يجب ألا يكون ذا أقوال بلا أفعال، بل يجب أن تسبق أفعاله أقواله، خاصة فيما يتعلق بالعمل والنجاح والاجتهاد.
إن تلك الصفات ليست بالضرورة أن تكون موجودة في صاحب القدوة كاملة، بل المهم أن يسعى من أجل أن يكون في داخله شيء من كل صفة، ويسعى في تنميتها حتى تكتمل في داخله.