إن التاريخ الإسلامي حافل بغزوات الرسول “صلى الله عليه وسلم”، كل غزوة لها حدث، وهدف عظيم، والغاية العظمى من غزوات الرسول “صلى الله عليه وسلم” هي إعلاء كلمة الإسلام، وإبطال الهجوم عليها وإضعافه.
والغزوات: هي المعارك التي شارك فيها الرسول “صلى الله عليه وسلم” وكان في أغلبها هو قائد الغزوة.
وفي هذا المقال، نتناول غزوة من أهم الغزوات الفارقة في حياة الرسول “صلى الله عليه وسلم” والتي حرص فيها الرسول “صلى الله عليه وسلم” من إعلاء كلمة الإسلام، بكل السبل، الشريفة منها، حتى لا يتسنى للعدو أن يضعف قوة الإسلام.
والغزوة التي بين أيدينا، هي غزوة (حنين)، والتي كانت بعد فتح الرسول “صلى الله عليه وسلم” لمكة، وانتشار الدعوة الإسلامية في مكة والقبائل والمدن المجاورة.
تاريخ الغزوة، وأطرافها
قامت غزوة حنين في الثالث عشر من شوال للسنة الثامنة الهجرية، بين الرسول “صلى الله عليه وسلم” قائد المسلمين، وقبيلتي هوازن وثقيف.
سبب الغزوة
بعد فتح الرسول “صلى الله عليه وسلم” مكة، ازدهرت قوة الإسلام، وكان الرسول “صلى الله عليه وسلم” بعد منشغلًا بدعوة القبائل المجاورة للإسلام، ببعث الرسائل، ودعوتهم للإسلام، وانتشرت أخبار الإسلام بين قبائل العرب.
غير أن قبيلتي (هوازن وثقيف) أبت الدخول في الإسلام والخضوع له، واجتمعت القبيلتين وقرروا تنصيب زعيمًا يترأس جيوش القبيلتين، وذلك لغزو الرسول “صلى الله عليه وسلم” في مكة، وكان دافعهم من هذه الغزوة، هو خوفهم من المد الإسلامي القادم عليهم، وهيمنة الدولة الإسلامية على كل شيء.
استطاع قائد جيش القبيلتين، والقبائل الأخرى المتحالفة، وهو (مالك بن عوف النضري) أن يحشد ما يقارب من ثلاثين ألف مقاتلًا، لمواجهة الإسلام في الغزوة، وأمر المقاتلين أن يأخذوا معهم نسائهم وأولادهم وأموالهم وأنعامهم، وكل ما يملكون في الغزوة، لتكون أملاكهم هي الدافع لهم في الغزوة، فلا يخسروها، بل يفوزون حفاظًا عليها.
كان للقبيلتين شيخ، عارف بأمور الحرب، استنكر عليهم ان يأخذوا النساء والأولاد والأموال معهم المعركة، لكن القائد (مالك بن عوف النضري) أصر على أن يأخذهم حتى لا يهرب جيش المشركين، فأشار عليهم الشيخ وهو (دريد بن الصمة) أن يكمن الجيش خلف الأشجار في وادي حنين، ككمين يبدأوا من عنده مباغتة المسلمين.
أحداث الغزوة
من جهة المسلمين
كان للرسول “صلى الله عليه وسلم” حكمة في عقله وهبه الله إياها، ونظرة ثاقبة في أمور الحرب، فقرر الرسول “صلى الله عليه وسلم” أن يخرج للملاقاة العدو في مكان يتوسط هوازن ومكة، وفي ذلك حكمة عظيمة، لأنه “صلى الله عليه وسلم” رأى أن مكة حديثة عهد بالإسلام، وإذا استطاعت هوازن وثقيف أن يغزوا مكة، قد يتعاون أهل مكة معهم، لذلك أراد أن يخرج للقتال بعيدًا عن مكة، خشية أن يتعرضوا للهجوم من الخارج والداخل.
وفي انتقائه للمقاتلين: أخذ الرسول “صلى الله عليه وسلم” عشرة آلاف مقاتلًا، وهم الذين فتحوا مكة، وهم أقوى جيش الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وفيهم قادة عظماء، إلى جانب الذين أسلموا بعد فتح مكة، أخذهم الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وفي هذا التصرف أيضًا حكمة جليلة، حتى إذا انهزم المسلمون لا ينفصلوا بمكة عن الرسول “صلى الله عليه وسلم”
ورأى الرسول “صلى الله عليه وسلم” أن السلاح الذي بين يديه، رغم عظمته، فإنه لا يكفي، فذهب إلى تجار الأسلحة في مكة، ولم يكونوا قد أسلموا بعد، وعقد معهم صفقة لأخذ السلاح منهم، وأن يضمن المسلمين هذا السلاح ويرجعوه بعد الحرب.
وأخيرًا، اهتم الرسول “صلى الله عليه وسلم” بالحراسة الليلية، حتى يأمن مكر العدو، ولا يُباغته ليلًا.
من جهة هوازن وثقيف
خرجوا في ثلاثين ألف مقاتلًا، على رأسهم قائدهم (مالك بن عوف)، وكما ذكرت آنفًا، أمرهم مالك بن عوف أن يصطحبوا معهم نسائهم وأولادهم وأموالهم، وكل ما يملكون في الحرب حتى لا يفروا منها ويدافعون عنها، ولا يُهزموا، وأشار عليهم شيخهم (دريد بن الصمة) أن يكمنوا في الأشجار ويباغتوا جيش المسلمين.
في الغزوة
حينما خرج المسلمون لقتال العدو، اغتروا بعددهم وظنوا أنهم لن يُهزموا، وحين وصل النبي “صلى الله عليه وسلم” إلى الجبل، وجد منحدرًا كبيرًا، ثم وادي واسع ومساحة شاسعة من الأشجار.
وجد الرسول “صلى الله عليه وسلم” جيش هوازن يقف بعيدًا، فأيقن أنهم مختبئون خلف الأشجار، فبعث الرسول “صلى الله عليه وسلم” أحد مقاتلي الإسلام على رأس الجبل ليتأكد من وجود العدو خلف الأشجار، لكنه عاد وأخبر الرسول “صلى الله عليه وسلم” أنه لم ير شيئًا.
اطمئن الرسول “صلى الله عليه وسلم” وبدأ تنظيم الصفوف في كتائب، كانت أول كتيبة بقيادة خالد بن الوليد، والكتيبة الثانية بقيادة الزبير، والكتيبة الثالثة بقيادة علي بن أبي طالب.
أمر الرسول “صلى الله عليه وسلم” أول كتيبة أن تنزل إلى المنحدر، فتكالب عليها جيش هوزان فاختل جيش المسلمين.
ومن شدة ارتباكهم وخوفهم، كانوا يفرون إلى مكة عائدين، دون أن يلتفتوا إلى الوراء، ولم يبق مع النبي في هذا الوقت إلا قلة من أصحابه، فأمر الرسول “صلى الله عليه وسلم” عمه العباس، وكان صوته عاليًا، أن ينادي المسلمين، ويقول (يا أصحاب بدر) فاجتمع المسلمون حول النبي بلغ عددهم ستة وستون أنصاري، وثلاثة وثلاثون مهاجر.
واشتد القتال بين المسلمين وجيش قبيلتي ثقيف وهوازن، ومن شدة القتال نزل الرسول “صلى الله عليه وسلم” من فرسه وامتطى بغلته، وتوجه بإصرار إلى قبيلة هوازن وهو يقول (أنا الرسول لا كذب، أنا ابن عبد المطلب). وحمل “صلى الله عليه وسلم” في قبضته حفنة من التراب وألقاها في اتجاه العدو.
يقول العباس: ما رأيت أحدًا من هوازن إلا ويفرك عينيه وفمه.
واشتد القتال، فلجأ الصحابة إلى الله “سبحانه وتعالى” يدعونه أن ينصرهم، فأنزل الله “سبحانه وتعالى” السكينة في قلوبهم، وأنزل على العدو جبريل ومعه كتائب من الملائكة، يراهم المؤمنون على هيئة نمل أسود على أجساد الكفار، ويراهم الكفار على هيئة فرسان بيض.
واستمر القتال حتى لحقت الهزيمة قبيلتي هوازن وثقيف، وفروا مخلفين وراءهم غنائم كبيرة تعادل جبلين، فكان من رحمته “صلى الله عليه وسلم” أن وزع الغنائم بالعدل وبغير خشية أن يصيبهم الفقر، وأعاد لتجار الأسلحة ما كان لهم، وأعطاهم من الغنائم حتى أحبوه لكرمه.
الدروس المستفادة
في هذه الغزوة عدد من الدروس المستفادة التي يجب أن نلقي عليها الضوء جيدًا، حتى نعلم حكمة الإسلام ورحمته، وعظمة الرسول “صلى الله عليه وسلم”
- أول الدروس المستفادة، أن القرآن بين ما حاق بالمسلمين حين اغتروا بعددهم، فكانت الهزيمة لهم في بادئ الأمر، لولا أن الرسول “صلى الله عليه وسلم” تدارك الأمر وأعاد شمل الجنود.
- ثاني الدروس، هو ما بينه القرآن الكريم، أن المسلمين انهزموا في بادئ الأمر، ولم يبق مع الرسول “صلى الله عليه وسلم” سوى نفر قليل من أصحابه، وذلك فيه حكمة كبيرة.
- أكد الله تعالى أنه يقبل توبة التائبين إلى الله، والعائدين له من عباده، وينصرهم دائمًا مهما أخطأوا، بشرط أن يتوبوا توبة نصوح.