إن غزوة تبوك هي الغزوة الأخيرة التي قام بها الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وكانت بين المسلمين بقيادة الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وجيوش الروم.
وقد عرفت هذه الغزوة باسم غزوة تبوك نسبة إلى عين تبوك التي انتهى إليها المسلمين، كما سميت بغزوة العسرة، لما عاناه المسلمين آنذاك من القحط والضنك، وشدة حرارة الجو، وقلة الدواب والمؤونة التي تحمل المجاهدين المسلمين إلى أرض المعركة، غير أن مسافة السفر كانت بعيدة عليهم، مما عاد عليهم بالمعاناة الشديدة.
سبب قيام غزوة تبوك
كانت غزوة تبوك بمثابة استكمالًا لدعوة الرسول “صلى الله عليه وسلم” ورغبته في نشر الإسلام في ربوع العالم كله، فالروم كانوا أقرب إليه وأولى بالدعوة الإسلامية، غير أن أخبارًا وصلت إلى سيدنا محمد أن الروم قد اجتمعوا ليرسلوا قوة عسكرية كبيرة لمقاتلة الرسول “صلى الله عليه وسلم” وهدم الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، التي باتت من أقوى الدول في العالم آنذاك، واتسعت رقعتها سريعًا، وصار لها مكانة كبيرة بين غيرها من الدول والقبائل.
غير أن الدولة الإسلامية أصبحت مصدر تهديدًا للروم، فأرادوا أن يقطعوا الدولة الإسلامية من جذورها حتى ينتهي التهديد الذي يتوعدهم من الدولة الإسلامية، فعزموا على مقاتلة الرسول “صلى الله عليه وسلم”
مما دفع الرسول “صلى الله عليه وسلم” لتجهيز جيوش المسلمين استعدادًا للمعركة التي على وشك أن تقوم في تلك الآونة.
أحداث الغزوة
حينما وصلت الأخبار إلى الرسول “صلى الله عليه وسلم” بأن الروم على وشك مواجهة المسلمين، أراد الرسول “صلى الله عليه وسلم” أن يخرج بجيوش المسلمين لمواجهتهم، رغم صعوبة الموقف آنذاك، من الحر الشديد الذي كان يعانيه المسلمين، وقلة الماء، وغيرها من الصعوبات التي تدفع إليها مثل هذه الظروف.
لكن الرسول “صلى الله عليه وسلم” أصر على مواجهة الروم، فنادى في القبائل المجاورة أن تسرع إلى المعاونة والحرب ودعم جيش المسلمين، فلاقى الرسول “صلى الله عليه وسلم” دعمًا جليلًا من قبائل المسلمين، ومن الله “سبحانه وتعالى” أيضًا، والتحم الكل لمواجهة جيش الروم.
ولا أغفل دور عثمان بن عفان “رضي الله عنه” في الإنفاق على هذه الغزوة؛ فقد أنفق على المسلمين لخوض على هذه الغزوة: (ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها).
وفي منافسة بين عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” وأبو بكر الصديق “رضي الله عنه” أنفق سيدنا عمر نصف ماله لأجل الغزوة، ظنًا منه أنه بذلك يسبق أبو بكر الصديق “رضي الله عنه” لكن الصديق فاجأه بأنه أنفق ماله كله من أجل جيش المسلمين، فما أعظمها منافسة للجهاد في سبيل الله.
وخرج الرسول “صلى الله عليه وسلم” لمواجهة الروم في صحبة ثلاثين ألف مقاتلًا من المهاجرين والأنصار وأهل مكة والقبائل العربية المجاورة، وأخبرهم الرسول “صلى الله عليه وسلم” وجهته، وهي مقاتلة الروم (بني الأصفر)، وكانت المرة الأولى التي يصرح فيها الرسول “صلى الله عليه وسلم” بوجهته في القتال.
وكانت الحكمة من تصريح الرسول: أن المسافة إلى جيش الروم بعيدة، فلابد أن يستعد لها المسلمون، غير أن قتال قوة مثل ثوة الروم تستلزم استعدادًا خاصًا من الجيش الإسلامي، فهم جيش له طبيعة تختلف عن طبيعة العرب، لذلك كان لابد من هذا التصريح ليكون المسلمين على أتم استعداد.
خرج الرسول “صلى الله عليه وسلم” قاصدًا تبوك، بعدما تعرض لكثير من الابتلاءات على يد المنافقين، والحر الشديد الذي عانى منه الجيش، وبعد المسافة، وقلة المؤونة والشراب والطعام.
فأما المنافقون، فكانوا يثبطون عزيمة الرسول “صلى الله عليه وسلم” بأعذارهم الواهية، وحججهم حتى لا يقدمون على القتال، وتحريض بعضهم على الرسول “صلى الله عليه وسلم” وكان الرسول “صلى الله عليه وسلم” يوواجه نفاقهم بحكمة شديدة ورحمة من قلبه.
وبعد معاناة واجهها الرسول “صلى الله عليه وسلم” وأصحابه من المنافقين من جيش المسلمين، وشدة الحر، وقلة المؤونة والطعام والشراب، وصلوا أخيرًا إلى تبوك، فنزل الرسول “صلى الله عليه وسلم” وألقى في المؤمنين خطبة:
“أَيّهَا النّاسُ، أَمّا بَعْدُ، فَإِنّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللّهِ، وَأَوْثَقَ الْعُرَى كَلِمَةُ التّقْوَى، وَخَيْرَ الْمِلَلِ مِلّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَخَيْرَ السّنَنِ سُنَنُ مُحَمّدٍ، وَأَشْرَفَ الْحَدِيثِ ذِكْرُ اللّهِ، وَأَحْسَنَ الْقَصَصِ هَذَا الْقُرْآنُ، وَخَيْرَ الْأُمُورِ عَوَاقِبُهَا، وَشَرّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَأَحْسَنَ الْهُدَى هُدَى الْأَنْبِيَاءِ، وَأَشْرَفَ الْقَتْلِ قَتْلُ الشّهَدَاءِ، وَأَعْمَى الضّلَالَةِ الضّلَالَةُ بَعْدَ الْهُدَى، وَخَيْرَ الْأَعْمَالِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرَ الْهُدَى مَا اُتّبِعَ، وَشَرّ الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ، وَالْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ السّفْلَى، وَمَا قَلّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَشَرّ الْأُمُورِ الْمَعْذِرَةُ حِينَ يَحْضُرَ الْمَوْتُ، وَشَرّ النّدَامَةِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَمِنْ النّاسِ مَنْ لَا يَأْتِي الْجُمُعَةَ إلّا نَذرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَذْكُرُ اللّهَ إلّا هُجْرًا، وَمِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا اللّسَانُ الْكَذُوبُ، وَخَيْرَ الْغِنَى غِنَى النّفْسِ، وَخَيْرَ الزّادِ التّقْوَى، وَرَأْسَ الْحُكْمِ مَخَافَةُ اللّهِ، وَخَيْرَ مَا أُلْقِيَ فِي الْقَلْبِ الْيَقِينُ وَالِارْتِيَابَ مِنْ الْكُفْرِ. وَالنّيَاحَةَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيّةِ، وَالْغُلُولَ مِنْ جَمْرِ جَهَنّمَ، وَالسّكْرَ كِنّ مِنْ النّارِ، وَالشّعْرَ مِنْ إبْلِيسَ، وَالْخَمْرَ جِمَاعُ الْإِثْمِ، وَالنّسَاءَ حِبَالَةُ الشّيْطَانِ، وَالشّبَابَ شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ، وَشَرّ الْمَكَاسِبِ كَسْبُ الرّبَا، وَشَرّ الْمَأْكَلِ مَالُ الْيَتِيمِ. وَالسّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشّقِيّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمّهِ، وَإِنّمَا يَصِيرُ أَحَدُكُمْ إلَى مَوْضِعِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ وَالْأَمْرَ إلَى آخِرِهِ، وَمِلَاكَ الْعَمَلِ خَوَاتِمُهُ، وَالرّبَا رِبَا الْكَذِبِ. وَكُلّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَسِبَابَ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ، وَقَتْلَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ، وَأَكْلَ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللّهِ، وَحُرْمَةَ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ.
وَمَنْ يَتَأَلّ عَلَى اللّهِ يُكَذّبْهُ، وَمَنْ يَعْفُ يَعْفُ اللّهُ عَنْهُ، وَمَنْ يكظم الغيظ أْجُرْهُ اللّهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرّذيّةِ يُعَوّضْهُ اللّهُ، وَمَنْ يَتّبِعْ السّمْعَةَ يُسَمّعْ اللّهُ بِهِ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُضَاعِفْ اللّهُ لَهُ، وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ يُعَذّبْهُ اللّهُ. اللّهُمّ اغْفِرْ لِي وَلِأُمّتِي، اللّهُمّ اغْفِرْ لِي وَلِأُمّتِي، أَسْتَغْفِرُ اللّهَ لِي وَلَكُمْ).
وتفاجأ جيش المسلمين، أن الروم، حين وصل الرسول “صلى الله عليه وسلم” إلى تبوك، قد تفرقوا، وهربوا فارين من جيش المسلمين، وهكذا تحقق نصر المسلمين، دون أن يخوضوا أي قتال، وبذلك زادت هيبة الدولة الإسلامية، ونقصت هيبة دولة الروم.
واقرأ هنا كذلك ما قد يُفيدك هنا
في نهاية غزوة تبوك
إلى جانب إسقاط هيبة دولة الروم، ارتفعت مكانة قوة الدولة الإسلامية، لأنها استطاعت أن تزرع الخوف في جيش قوة عظمى مثل دولة الروم، رغم الهزيمة التي لحقت المسلمين في غزوة مؤتة على يد الروم.
غير أن الجزيرة العربية أصبحت تحت الحكم الكامل للدولة الإسلامية بقيادة الرسول “صلى الله عليه وسلم”
الدروس المستفادة من غزوة تبوك
في نهاية الغزوة، بكل أحداثها التي مرت، نستخلص مجموعة من الدروس المستفادة:
- أولها: سرعة استجابة الصحابة من المهاجرين والأنصار لنداء الرسول “صلى الله عليه وسلم” لخوض المعركة ضد الروم، وهم يعلمون أنها قوة عظمى، ورغم ما واجهوه من المعاناة في طريقهم لمواجهة جيش الروم.
- ثانيها: ما بذله الصحابة من الإنفاق في سبيل الله من أجل الغزوة، ولتجهيز الجيش، غير المشورة التي قدمها سيدنا عمر بن الخطاب للرسول “صلى الله عليه وسلم” حين اشتد بهم الجوع.
- ثالثها: كشف الله “سبحانه وتعالى” في هذه الغزوة المنافق، ممن وهب حياته كلها لأجل خدمة الإسلام، والله سيجازي المنافقين بما فعلوا، والمؤمنين سينالون جزاء تضحيتهم الجليلة.
الهم صلي على سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم