إن صفة الأمانة، أول الصفات التي يجب أن يتحلى بها المجتمع دائمًا، وأن تتوج بها نفوس الأفراد في كل المجتمعات حتى تسود الثقة المتبادلة بين الأفراد، وينعم المجتمع بالود والحب فيما بينهم، وتنتبذ أساليب البغض والكراهية من المجتمع، ويسود السلام، والتآلف.
إن الأمانة معناها: كل ما يلتزم به الإنسان أمام نفسه والآخرين، في كل الأمور المفروضة عليه، إما في أداء العبادات، أو في صيانة نفسه، أو في الحفاظ على ودائع الغير، لذلك فالأمانة هي كل ما يؤتمن عليه الإنسان، وإذا أهدره فإنه بذلك يخون الأمانة التي أودعها الله فيه، أو التي أودعها غيره عنده.
إن المجتمع الحضاري لابد أن يقوم على عدة أسس وقوانين، يلتزم بها أفراد المجتمع حتى يسود الرقي فيما بينهم، ويتآلف المجتمع في بوتقة واحدة، وينتشر الخير فيما بينهم والتعاون، والأمانة هي أول الأسس الاجتماعية التي يجب أن يلتزم بها الأفراد في المجتمع الحضاري، في المعاملات، والحفاظ على المواعيد، وتأدية العبادات كما يجب أن تكون، والإخلاص للمجتمع والوطن الذي ينشأ فيه الفرد.
لماذا يجب أن نتحلى بالأمانة؟
أن الأمانة، إلى جانب أنها خلق إنساني واجتماعي حضاري، هو خلق حث عليه الرسول “صلى الله عليه وسلم” وأمر الآخرين أن يلتزموا به، وأن يتحلوا به في نفوسهم، فكان الرسول “صلى الله عليه وسلم” خير من اتصف بالأمانة في كل شيء في مسيرة حياته، حتى من قبل أن يُبعث بدعوة الإسلام، كان معروفًا بين الناس في المجتمع الجاهلي، أنه الصادق الأمين، إذ كان يحافظ على الودائع عنده، فلا يبددها أو يطمع فيها.
وحين اشتغل عند السيدة خديجة “رضي الله عنها” في التجارة، لم يطمع في مالها، بل كان يعود بالقوافل التجارية الخاصة بها، وقد زاد الربح ببركة الله أضعافًا، وحين تزوج منها، لم يطمع في مالها، بل كان “صلى الله عليه وسلم” يعمل ويجتهد من أجل الرزق.
وحين تنزل عليه جبريل “عليه السلام” وأمره أن يلبي نداء ربه بالدعوة إلى الإسلام، ويكون رسول الإسلام بين الناس، عاش “صلى الله عليه وسلم” الباقي من عمره من أجل دعوة الإسلام، يخوض الغزوات، ويتعرض للشدائد على يد الكفار، والمنافقين وغيرهم، ويأمر الناس بما أمرهم الله، بمنتهى الأمانة، دون أن يزيد أو ينقص على هواه، فحمل “صلى الله عليه وسلم” لواء الإسلام، ومن بعده أصحابه، حتى صارت بقعة الدولة الإسلامية، بالعدل، والرحمة، والسلام، من أقوى الدول في العالم، إن لم تكن القوة الأقوى بين الدول.
ومن أمانته “صلى الله عليه وسلم” كان يؤدي العبادات على أكمل ما يكون، شكرًا لله على نعمته، وما هداه إليه، رغم أنه “صلى الله عليه وسلم” معصوم من الخطأ، ولكنه “صلى الله عليه وسلم” لم يستند على هذا الجدار، وشرع يؤدي صلواته وعباداته المفروضة كما أمره الله “سبحانه وتعالى” وأمر المسلمين، فصار خير قدوة لأصحابه والمسلمين وكل من جاء بعده “صلى الله عليه وسلم”.
ومن أمانته “صلى الله عليه وسلم” أنه كان يلتزم بحدود الله في العدل والمعاملات، ولم يشرع قوانينًا على هواه، بل كله وحي من عند الله، والسنة النبوية هي إيضاح لتعاليم الله “سبحانه وتعالى” وأوامره الغامضة في القرآن الكريم، والله أعلم.
هكذا يعلمنا الرسول “صلى الله عليه وسلم” معنى أن يلتزم الإنسان الإمانة في أفعاله أولًا، لا في أقواله فقط، وأن الأمانة، تدفع الإنسان إلى إتقان كل ما يستوجب عليه فعله، وأن يلتزم بما أمره الله به، فكل شيء له حق عليه، أمانة لابد أن يؤديها الإنسان، ضاربًا بذلك مثالًا للرقي والتحضر، والالتزام.
لذلك فإن السبب الأول الذي يستوجب الإنسان أن يتحلى بالأمانة لأجله، هي القوة والعدل والرحمة التي اتصف بها الإسلام والمسلمين، واقتداء بالرسول الكريم “صلى الله عليه وسلم”
وإن للتحلي بالأمانة فضائل كثيرة، إلى جانب أنها خلق عملي حث عليه الرسول “صلى الله عليه وسلم”، ورغم أن الأمانة لها أنواع كثيرة، فإن كل نوع منها له فضل يتميز به الإنسان عند الله “سبحانه وتعالى” وبين الناس كلهم.
فأمانة آداء العبادات، وهي النوع الأول والأسمى من الأمانات التي يجب أن يلتزم بها الإنسان؛ فإذا التزم بها حق التزام، وذلك على النحو الآتي: أن يلتزم بتعاليم الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وفروض الله “سبحانه وتعالى” بإقامة الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، بإيمان راسخ قوي، وتأدية بإتقان محكم، وقلب عامر بحب الله، إلى جانب الالتزام بالقرآن الكريم وعدم مفارقته، والدعاء بإلحاح إلى الله، بحيث يؤدي الإنسان عبادته على أكمل وجه، على الوجه الذي يدفعه إليه حبه لله، وخلقه، وأمانته.
فمن يلتزم بذلك في نفسه، وقلبه، وجوارحه، فإن الله يرضى عنه، ويكون له مكانة عالية عند الله، ويرزقه الله ويبارك في أعماله، ويكون في الجنة في أعلى الدرجات، نظرًا لتحريه الأمانة بتعاليم الله، والرسول “صلى الله عليه وسلم” وعدم أخذها على هواه، يفعل منها ما يشاء، ويترك منها ما لا يساير هواه، والجنة هي أسمى غاية، وأشرف مكانة قد يتطلع إليها الإنسان في حياته.
والإنسان الذي يحافظ على جوارحه مما يغضب الله، وهو النوع الثاني من أنواع الأمانة، بحيث لا ينظر إلى ما حرم الله، ولا يمد يديه إلى ما حرمه الله، ولا يشتهي بقلبه ما حرمه الله، أو يأكل أو يشرب ما حرمه الله، وجاهد نفسه لحفظ جوارحه من الشهوات التي تتزين للإنسان دائمًا، ويكون طريقها سهل معبد للخوض فيها، فإن الإنسان ينال بذلك بركة في الرزق، وفي الصحة والعافية، ويرزقه الله جزاء صبره أيما جزاء، ويرفعه عنده درجات، ويصير محبوبًا في مجتمعه، يشهد له بالوقار والاحترام، ويأمن مكر الأعداء.
ثم نأتي إلى أمانة حفظ العهد، وهي النوع الثالث من أنواع الأمانة؛ وتستوجب ان يلتزم الإنسان بالعهد الذي يوثقه مع غيره من الأشخاص، إما بحفظ عهد المواقيت، أو عهد الشراء والبيع، أو عهد حفظ الأسرار، فإن التزم بها الإنسان في حياته صار ذا مكانة عالية بين الناس، يوقره الكبير، ويحترمه الصغير، وتعم الثقة بينه وبين أصدقائه، ويحق أن يؤتمن على أسرارهم، ومواعيدهم، وكل ما يعهدوه إليه.
وفي آخر نوع من أنواع الأمانة، وهي أمانة الكلام، والتي تستوجب ان يحافظ الإنسان على ما ينطق به، فلا ينطق باللغو الذي يوقع الناس في بعضها، أو ينطق بالكذب والشائعات، وأن يتحرى الدقة فيما يقول، أو يصمت.
وإن فعل الكلمات كبير، وما تؤدي إليه شديد، فكم من شائعات تداولت على الألسن، تغير في حقيقتها كيف تشاء، فقامت على أثرها الحروب، والمجازر، والخلافات، والنزاعات، لذلك فإن حفظ الألسن، والتزام الأمانة فيما ينقل الإنسان إلى الآخرين، يقي المجتمع الكثير من النزاعات، والخلافات بين الأفراد وبعضها، والإنسان الذي لا يفشي الأسرار، ويكتمها في داخله، ولا يفشي الفتن والشائعات، يحترمه الناس، ويأتمنوه على أسرارهم، ويصير مسئولًا في المجتمع.
إن الإمانة صفة جليلة، وهي أساس قيام المجتمعات على أسس الحضارة والرقي، فالتزموا الأمانة، وتحلوا بها.