لقد حفل التاريخ الإسلامي بالأشخاص ذوي الهمم الذين حملوا الإسلام في قلوبهم، ورددوه على ألسنتهم، وشرعوا يحيون كلمة الله بكل ما أوتوا من قوة في دواخلهم.
كان الصحابة “رضي الله عنهم” أقرب الناس إلى الرسول “صلى الله عليه وسلم” يتعلمون منه، ويتدارسون قرآنه بل ويتنافسون في فهمه وتفسيره وحفظه في الصدور، وحين شنت الهجمات على الإسلام، كل منهم كان يدافع بما رزقه الله، ويجاهد به لنصرة الإسلام، فنصرهم الله “عز وجل”.
ومن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا بمثابة عضد النبي “صلى الله عليه وسلم” وسارعوا إلى إحياء كلمة الله، والحفاظ عليها في الأرض لا تندثر: الصحابي الجليل زيد بن ثابت، الأنصاري، كاتب الوحي، وراوي الحديث عن النبي “صلى الله عليه وسلم”
ومن خلال هذا المقال نطلع على حياة الصحابي الجليل: زيد بن ثابت، وموقفه من الإسلام والقرآن الكريم في حياة النبي “صلى الله عليه وسلم” وبعد وفاته، وكيف له دور لا يمكن إنكاره أو نسيانه في رفعة كلمة الإسلام واستبقائها في الأرض.
من هو زيد بن ثابت؟
هو زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار بن ثعلبة، ولد يتيم الأب في المدينة المنورة، وتزوج من أم العلاء الأنصارية، والدة ابنه خارجة بن زيد بن ثابت.
حين هاجر الرسول “صلى الله عليه وسلم” إلى المدينة كان زيد بن ثابت طفلًا لا يتجاوز عمره الحادي عشرة سنة، وأسلم مع أهله وباركه الرسول “صلى الله عليه وسلم” بالدعاء.
موقفه من الإسلام وفضله
اتسم الصحابي الجليل زيد بن ثابت بحكمته البالغة وتفوقه في العلم؛ فقد أمره الرسول “صلى الله عليه وسلم” أن يتعلم لغات العالم الخارجي حين أراد النبي “صلى الله عليه وسلم” أن تصل الدعوة الإسلامية إلى العالم الخارجي، فكان زيد بن ثابت سريع التعلم، حتى أنه تعلم السريانية كما أمره الرسول “صلى الله عليه وسلم” في سبعة عشر يومًا.
وكان زيد بن ثابت يتابع وحي الرسول “صلى الله عليه وسلم” ويكتبه، فحينما ينزل الوحي على الرسول “صلى الله عليه وسلم” كان يبعث إلى زيد، فيكتب زيد عنه الوحي الذي تنزل.
كما أنه روى الحديث عن النبي “صلى الله عليه وسلم” وحدث عنه: أبو هريرة، وابن العباس “رضي الله عنهما”
وكما أسلفت أن قلت أن زيد بن ثابت من الصحابة الذين استطاعوا حفظ القرآن الكريم ويكتبونه، وقد قرأ القرآن على الرسول “صلى الله عليه وسلم” في العام الذي توفي فيه مرتين.
كما أنه تبوأ منزلة كبيرة في المجتمع الإسلامي آنذاك، فكان له سيرة حسنة وفضل كبير بين المسلمين، فاحترمه المسلمون ووقروه وأجلوه.
ومن فضله: حين حلت غزوة تبوك، حمل عمارة بن حزم راية بني النجار، فأخذها منه الرسول “صلى الله عليه وسلم” ودفعها إلى زيد بن ثابت، فقال عمارة: (يا رسول الله، بلغك عني شيء؟) فقال له الرسول “صلى الله عليه وسلم”: (لا، ولكن القرآن مقدَّم).
وقال عنه ثابت بن عبيد: (ما رأيت رجلصا أفكه في بيته، ولا أوقر في مجلسه من زيد).
غير أن زيد بن ثابت هو من تولى قسمة الغنائم يوم اليرموك، وهو أحد أصحاب الفتوى الستة، فما كان عمر وعثمان “رضي الله عنهما” يقدمان على زيد أحدًا في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة، واتخذه عمر “رضي الله عنه” قاضيًا وفرض له رزقًا.
وبذلك يتضح لنا أن زيد بن ثابت كانت قوته في القرآن الكريم؛ فقد كان له الأثر في تهذيب نفسه، وتفقيهه في الدين، ورف شأنه بين المسلمين، وتلك موعظة نتخذها في حياتنا، أن نتخذ زيد بن ثابت قدوتنا في التعلق بالقرآن الكريم، ومحاولة تدبره والنظر فيه، حتى نصير محبوبين عند الله “سبحانه وتعالى” وتبقى سيرتنا في الحياة محمودة مليئة بالسكينة والطمأنينة.
زيد بن ثابت وجمع القرآن الكريم
كان لزيد بن ثابت الفضل الأكبر في جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق بعد وفاة الرسول “صلى الله عليه وسلم”؛ فحينما قامت حروب الردة، كان شهداء معركة اليمامة من حفظة القرآن الكريم عددهم كبيرًا.
وحين هدأت الحروب ذهب عمر بن الخطاب إلى الخليفة أبي بكر الصديق “رضي الله عنهما”، وأخبره برغبته في جمع القرآن الكريم، مخافة أن يضيع في الصدور، او يموت حفاظ القرآن ويستشهدوا.
وبعدما استخار أبو بكر الصديق الله في الأمر، وشاور أصحابه، بعث لزيد بن ثابت فأتى إليه، فقال له الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (إنك شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله “صلى الله عليه وسلم” فتتبع القرآن فاجمعه”. فاعترض زيد بن ثابت في بادئ الأمر، وقال: (كيف تفعلون شيئًا لم يفعله الرسول “صلى الله عليه وسلم”؟) فقال أبو بكر الصديق: (هو والله خير). واستمر أبو بكر الصديق “رضي الله عنه” يراجع زيد بن ثابت حتى اهتدى، وانشرح صدره إلى ذلك، ونهض في مهمته.
وقد أبلى زيد بن ثابت بلاءً حسنًا في جمع القرآن الكريم، وقال مقاله المشهورة في جمع القرآن الكريم: (والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه، لكان عندي أهون علي مما أمروني به من جمع القرآن). وقال: (فكنت أتبع القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال). وذلك دليلًا واضحًا على أن زيد بن ثابت قد تحرى الدقة في جمع القرآن الكريم، وأنه التزم بالأمانة التي كُلف بها من أبو بكر الصديق، وراح يتحرى عن القرآن الكريم في الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى جمعه في أكثر من مصحف.
وفي المرحلة الثانية من جمع القرآن الكريم، في خلافة عثمان بن عفان، كان لتعدد المصاحف آنذاك خطرًا شديدًا، خصوصًا وقد أصبح الإسلام يستقبل أجيالًا وأناسًا جديدة عليه، فأصبحت الألسن تختلف على القرآن، فقرر عثمان بن عفان “رضي الله عنه” أن يجمع القرآن في مصحف واحد، فقال: (من أكتب الناس؟) قالوا: (كاتب رسول الله: زيد بن ثابت)، قال: (فأي الناس أعرب؟) قالوا: (سعيد بن العاص) لما في لهجة سعيد بن العاص الشبه بلهجة الرسول “صلى الله عليه وسلم”، فقال عثمان: (فليمل سعيد وليكتب زيد).
فجمع زيد بن ثابت أصحابه وجاءوا بالمصاحف من بيت حفصة بنت عمر، وبدأوا في جمع القرآن الكريم، حتى جُمع القرآن كله في مصحف واحد.
مواقف من حياة زيد بن ثابت
حين جاء موعد غزوة بدر كان سن زيد بن ثابت صغيرًا، فخرج مع قوم من الأنصار إلى غزوة بدر، غير أن الرسول “صلى الله عليه وسلم” رده لصغر سنه، وصغر جسمه وضعفه، وكرر الأمر في غزوة أحد لكن الرسول “صلى الله عليه وسلم” لم يوافقه، وحين اختار الرسول من بينهم بعض الأشبال وترك بعضهم من بينهم زيد بن ثابت، شرعوا يرجونه بكل جهدهم، لكن الرسول “صلى الله عليه وسلم” لم يوافق واعدًا إياهم أن يأخذهم في الغزوة المقبلة.
وتوفي زيد بن ثابت سنة 45 هجريًا في عهد معاوية، وقال عنه أبو هريرة: مات حبر الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا.