الطفولة مرحلة غير هينة في حياة الإنسان، وتظل صاحبة العلامات التي تستمر معه والمرحلة التي تظل عالقة في أذهاننا جميعًا. فنبدأ فيها اكتشاف ما يدور من حولنا، ونتعرف فيها على كل ما يحيط بنا. وتمتلئ مرحلة الطفولة بالذكريات الجميلة التي تظل تشكل عمقًا داخل عقولنا وأذهاننا حتى مع التقدم في العمر. ونتعلم فيها كل ما يُحفر في أهذننا طيلة حياتنا وحتى الممات. وفيها تتشكل شخصياتنا وطبائعنا وما نتحلى به من صفات تؤثر في حيواتنا القادمة. ولا تقتصر أهمية مرحلة الطفولة على كونها مرت بسلام دون عناء أو لا بل لأننا لم نكن نحمل هم الحياة ولا مشكلات الزمن. ولم نكن نعبأ بما يدور من حولنا ولا ما يحدث فيما يحيط بنا. ومن هنا فنحن نشتاق إلى هذه المرحلة من حياتنا، يوم لم نكن نحسب للدنيا أي حساب، وكنا نلقي بهمومنا على كاهل أهلينا.
ذكريات مرحلة الطفولة
لا نعرف قيمة هذه المرحلة من حياتنا إلا حين نكبر وتمضي. ولا نعلم بمذاقها الجميل إلا عندما تزول هذه الأوقات التي كانت تملؤها الفرحة والبراءة. ندركها حين نحتاج إليها، ونحتاج إلى يوم مما مضى كان يمر كمر السحاب، لانشعر بأزمات ولا نعاني مشكلات ولا تدور أذهاننا تفكر ولا قلوبنا تعاني مشاق الأيام والعمر. هذه هي الطفولة التي نشتاق إليها ونشتاق إلى أن نختطف منها لحظات قليلة تعيننا على مواجهة قسوة هذه الأيام وصعوباتها، تريح قلوبنا فنشعر وكأننا لا زلنا صغارًا ليس لدينا هموم أو أعباء.
نعيش هذه الأيام حالة من العناء والمشقة سواء المادية الجسدية أو النفسية. فالعصر الذي نحياه أصبح لا يعترف سوى بالمادة والتي تفرض علينا أن نعمل لفترات تفوق طاقتنا وأحمالنا. فأصبحنا لا ننعم بفراغ أو نهنأ براحة بال، فلقد فُرض علينا أن نعيش منهكي القوى ومتعبي القلوب، وهنا تروح أذهاننا وقلوبنا تفكر في فترات الماضي، وقت أن كنا أطفالًا صغارًا، ونشتاق إلى تلك الأيام وتلك المرحلة التي فقدناها وأصبحنا نعيش أيامًا وظروفًا أفقدتنا براءتنا. كثير ما يحن أحدنا إلى لحظة فرح قضاها في الصغر وأحس فيها بفرحة خالصة تملأ القلب، فما كان لدينا هذه القدرة على التعبير عن عكس ما يدور في أذهاننا وعكس ما نشعر به. وكانت الفرحة يشعر بها القلب صادقة تملأه سرورًا ومحبة. وكانت تخرج الابتسامة صافية والضحكة تملأ الأفواه بريئة منزهة عن ما وراء النفس وما تشعر به من تعب ومشقة.
ما أكثر شوقنا اليوم إلى مكان كان يحتضننا في صغرنا ما كنا نشعر فيه أننا نمثل عبئًا عليه ولا مثّل عبئًا نفسيًا علينا ذات يوم. واليوم نحتاج لمجرد أن نوجد في هذا المكان ولو قليلًا، نستمد منه براءتنا وقوتنا في مواجهة الأيام. ما حاجتنا لأن نسير في طرقات كنا ندب فيها بأرجلنا ونحن نشعر بالأمان ونطمئن على أنفسنا لا نخشى من شيء، وإن حدث نشعر وكأن قلوبنا ترقص فرحًا وكأنها تخرج من بين الضلوع. نسير وأعيننا تسبقنا إلى أماكن كانت لنا فيها ذكريات جميلة مليئة بالحب والود والوفاء والسكينة والطمأنينة والهدوء. وقلوبنا تسكن إلى كل شبر من أرض سارت عليها أقدامنا وتتعلق بها وكأنها أحضان أمهات تنبض بالروح تمد ذراعيها تضمنا إليها.
ذكريات أيام المدرسة
ما أحوجنا إلى العودة إلى أيام المدرسة وقت أن كنا تلاميذًا صغارًا، لم يكن لنا هم أكبر من أن نجتاز امتحانات بسيطة كانت تمثل كل العبء. واليوم ما أكثر أن نقول ليتنا عدنا صغارًا ونذاكر ونجتهد ولا نتأفف من ذلك مثلما كنا نفعل. أو أن نعود ونعلم أن الدراسة ليست هي العامل الأول على النجاح، بل إن سلامة القلب عامل أهم وأكبر، وراحة الفؤاد هي الداعم الاول للنجاح، وراحة البال لا يعلوها مساعدًا للوصول إلى القمة وليس الاستذكار وحده.
نشتاق إلى وقت كنا نلعب ونتسابق مع أقراننا، ونحزن وقتها لأننا لسنا الأُوَلْ، بعد أن صرنا نعيش سباقًا حياتيًا يسبق من لديه المقومات المادية من مال وغيره من مطالب الحياة في هذه الأيام، ونلهث في الوصول إلى المقدمة ولا نصل وتتعب قلوبنا لأنها لا تصل. وندور في فلك الحياة ولا نجني إلا ما كُتب لنا ولكننا لا نفقه هذا ولا ندركه، فنتعب أنفسنا أكثر وندور أكثر فأكثر ولا نجني سوى كا كُتب لنا كذلك. وما أكبر الفارق بين اليوم والبارحة فقد كانت سباقاتنا شريفة تخلو من المكائد التي نحيكها اليوم لبعضنا البعض كي يصل كل منا قبل الآخر أو ليصل كل منا وحده دون الآخر، فنشتاق إلى سباق خالٍ من المكائد غني بالحب والود والبراءة.
نشتاق إلى أمور بسيطة كانت تميز طفولتنا وتزينها كانت ترسم البهجة في قلوبنا قبل وجوهنا، وهي ذاتها ترسم البهجة في قلوبنا كلما تذكرناها. نشتاق إلى أيام ما كنا نعرف فيها معنًا للألم أو المرارة أو الحنق والغضب والتكبر والغرور. نشتاق إلى أن نعود بلا رجعة ولكنها الأيام لا تعود بأحدنا ولا تمنحنا كل ما نحتاج، فلا تركتنا صغارًا نمتلئ براءة ولا منحتنا السعادة في الكبر.