إننا في العصر الحالي أصبحنا نسمع جملة يرددها الكثير على أفواههم، ومنهم من يعي معناها جيدًا، ومنهم من يرددها لأنها تلوك في الأفواه ليس أكثر، هذه الجملة هي: (رحم الله عمر بن الخطاب).
وهذه الجملة تقال إذا في المجالس التي تتحدث عن العدل، ومراعاة الله في الشعب، والتقدم الحضاري للدولة الإسلامية، وتقال أيضًا في مجالس الزهد في الدنيا، والتطلع إلى الله “سبحانه وتعالى” والمخافة من الله “سبحانه وتعالى”، وتقال أيضًا في مجالس الحديث عن القوة مع ضبط النفس، والمنعة والشدة والتعصب من أجل كلمة الحق والعدل.
إن زمن الخليفة عمر بن الخطاب من أزهى أزمان الدولة الإسلامية، استطاع أن يغزو الأرض وينشر فيها تعاليم الإسلام وتزيد رقعة الإمبراطورية الإسلامية، واستطاع أن يحرر القدس، ويفتح مصر.
واستطاع على اتساع رقعة الدولة الإسلامية أن يحافظ على العدل في كل البلاد والولايات الإسلامية، وأن يرد الظلم عن المظلومين، وأن يعاقب الظالم بما يستحق، وأن يسير الولاة والخلفاء على الطريق المستقيم القائم على العدل والمساواة والانضباط، متمسكًا بالتعاليم الإسلامية.
كان عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” مثالًا جليًا للزاهد المتقشف الذي لا ينظر إلى متع الدنيا الزائلة، وترف العيش، واستغلال المنصب الذي يعتليه.
كان مثالًا للخشص الذي غُرس فيه الإيمان، وتحمل مسئولية الرعية، وإقامة العدل فيما بينهم، وكسب محبة عمومهم وخواصهم، فاستطاع في النهاية أن يرقد هانئ البال قرير العين تحت شجرة في ملبس بسيط لا ينم على أنه خليفة الدولة الإسلامية، فقال عنه رسول كسرى حين سأل عنه:
(حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر). ونحن الآن أصبحنا نقتدي بآلائه في الزهد والتقشف والقوة والمنعة، والعدل، والتمسك بالتعاليم الإسلامية، واصبحنا الآن نرجو يومًا واحدًا من أيامه، أو عقلًا كعقله.
حياة عمر بن الخطاب قبل الخلافة
إن السمات التي ذكرتها آنفًا في سيدنا عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” من نحو: العدل والسماحة والزهد في الدنيا، والابتعاد عن متاعها الزائل، وإقامة العدل، والقوة في حكم البلاد، كلها الصورة النهائية التي انتهى إليها الخليفة عمر بن الخطاب “رضي الله عنه”
ومن الأجدر أن ننظر في حياة عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” قبل إسلامه وفي إسلامه حتى أصبح ذلك الإنسان العظيم الذي تولى خلافة الدولة الإسلامية بعد أبي بكر الصديق “رضي الله عنهما”.
كان عمر بن الخطاب قبل إسلامه يكن العداء للإسلام والمسلمين، ويكره الرسول “صلى الله عليه وسلم” كرهًا بينًا، وكان يتعمد أذية الرسول “صلى الله عليه وسلم” ولكن في داخله كان ينازعه صراع، أنه من الممكن أن يكون الرسول “صلى الله عليه وسلم” على الحق وهو على الباطل، لكنه كان من أسياد قريش المعروفين، فكان يخاف على منصبه وصورته بينهم، فيشارك في أذية الرسول “صلى الله عليه وسلم” وأتباعه رغم الصراع الناشب داخله.
لكنه في النهاية حسم أمره، وتلك من صفات عمر بن الخطاب “رضي الله عنه”، وقرر أن يقتل الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وبينا هو في طريقه سمع أن أخته أسلمت، فذهب إليها وضربها ضربًا عنيفًا، وكان في يديها صحيفة فيها شيء من القرآن الكريم، فأمسك بها بعد أن توضأ كما أمرته أخته، وقرأ ما فيها، واقتنع أن القرآن ما هو بكلام بشر، فذهب إلى الرسول “صلى الله عليه وسلم” وأعلن إسلامه، وأصبح من بعدها من أقوى الموالين للرسول “صلى الله عليه وسلم” وتشبث بكلمة الحق، وكان له فضلًا كبيرًا في الجهر بالدعوة الإسلامية والذهاب إلى الكعبة لإقامة شعائر الإسلام.
وفي إسلامه كان معروفًا بقوته ومنعته وحرصه على رفعة كلمة الإسلام، ومجابهته الشديدة لأعداء الإسلام، ويجب أن نشير إلى أن الإسلام قد غير كثيرًا من صفات عمر بن الخطاب، إذ تحول من ذلك الإنسان المعاقر الخمر والنساء، إلى ذلك الزاهد المتقشف، الذي يحافظ على نفسه من الشهوات بعدما عرف الإسلام حق المعرفة.
فكان بذلك من أهم الصحابة الذين يمثلون عضد النبي “صلى الله عليه وسلم” ويدافعون عنه في غزواته ودعوته إلى الإسلام.
خلافة عمر بن الخطاب
انتقل الرسول “صلى الله عليه وسلم” إلى الرفيق الأعلى، وتولى الخلافة أبو بكر الصديق، وبعد وفاته تولى عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” الخلافة، فكان عصره من أزهى العصور التي مرت على الدولة الإسلامية وأعدلها وأقواها.
استطاع عمر بن الخطاب في خلافته أن يغزو الكثير من الدول ويوسع رقعة الدولة الإسلامية، ففتح الشام والعراق وفارس، كما فتح مصر، وبيت المقدس، وغيرها من بقاع الأرض متخذًا في ذلك أعظم القادة الإسلاميين الذين عرفهم التاريخ بقوتهم ومثابرتهم وعزيمتهم، أمثال خالد بن الوليد، وعقبة بن نافع، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من القادة الكبار الذين عرفهم الإسلام ببطولاتهم.
واتسم عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” في خلافته بالعبقرية السياسية، إذ استطاع على اتساع رقعة الدولة الإسلامية أن يقسم البلاد إلى ولايات، وكل ولاية إلى أقاليم، وكان يختار “رضي الله عنه” لكل إقليم واليًا ممن توفر فيهم الصفات الحميدة التي تؤهلهم لحكم الولايات والبلاد والأقاليم.
واستطاع عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” أن ينشئ جيشًا قويًا منيعًا يغزو به الأمصار ويفتح به البلاد، إيمانًا منه بأهمية الجيش في رفع شأن الدولة الإسلامية.
كان عمر بن الخطاب أول من أنشأ (السجن) للمجرمين، وأدخل نظامًا جديدًا يسمى (العسس) وهو أمر يعادل (الشرطة) إذ أن العساس، يتجول في الليل، ويراقب، ويساعد القاضي في إثبات القضايا، ومن هنا قامت فكرة الشرطة، وأول عساس في الإسلام هو عبد الله بن مسعود.
غير أن عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” يتولى القضاء بين الناس، ويطبق الحدود والأحكام فيما بينهم، ولكن نظرًا لتوسع الدولة الإسلامية، واختلاط العرب بغيرهم، قرر عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” أن يعين قضاة يؤدون هذه المهام في البلاد، وهي مهمة منفصلة عن الولاية، وقدر لهم “رضي الله عنه” رواتب.
وكان لعمر بن الخطاب “رضي الله عنه” الفضل في إنشاء التقويم الهجري، واعتمده بدءًا من هجرة الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وبذلك فإن التأريخ الهجري يعود الفضل فيه إلى عمر بن الخطاب “رضي الله عنه”
وكان لعمر “رضي الله عنه” الفضل في إنشاء الدواوين؛ مثل: ديوان الإنشاء، وهو ديوان الرسائل، ودويان العطاء وديوان الجند المختص بتسجيل أسماء المقاتلين، ووجهتهم، ومقدار أعطياتهم وأرزاقهم، وديوان الجباية الهادف إلى إحصاء خراج البلاد المفتوحة، وتنظيم الإنفاق في الوجهات التي يجب الإنفاق فيها، وكان ذلك تمهيدًا لإنشاء بيت المال في الإسلام.
ومن إنجازات عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” في خلافته عمل نظام الشورى اقتداءً بالنبي “صلى الله عليه وسلم” وعملًا بالأمر الديني في القرآن الكريم.
ومات عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” وانتهت خلافته حينما اغتاله أبو لؤلؤة المجوسي الملعون، وبذلك انتهى عصر من أزهى عصور الدولة الإسلامية، وعلى رغم قوة عمر بن الخطاب وعبقريته في إدارة الدولة الإسلامية وزيادة رقعتها، فإنه كان مثالًا للتقشف والزهد، وتحريم اللقمة على فمه لطالما تعاني البلاد فقرًا وقحطًا، وكان الناس في عصره يقتدون به في التقشف والزهد.