إن الأمانة خلق إنساني كريم، يجب أن يتصف به كل إنسان على وجه الأرض؛ فالحياة تقوم على أسس وقوانين نفسية واجتماعية، يجب أن يلتزم بها كل إنسان حتى يسود الأمن والثقة بين الأفراد، فلا يخاف أحدٌ من الآخر أو يشك فيه، أو يفتش عن صدقه من كذبه.
والأمانة من هذه الصفات التي يجب أن يلتزم بها كل إنسان في مسيرة حياته، حتى يسود الثقة في تعامله مع غيره من البشر، فلا ينظر إليه أحد بعين الشكاك، أو يشك أحدًا في أمانته مما يدفعه للتفتيش وراءه في كل ما يفعله، أو يتحرى الحيطة والحذر حتى يثبت الآخر أنه جدير بالأمانة.
والأمانة خلق حث عليه الإسلام، ودعى إليه القرآن، وكان سيدنا محمد “صلى الله عليه وسلم” خير من اتصف بها، فكان صلوات الله وسلامه عليه، يتصف في حياته بالصادق الأمين، حتى قبل أن يعلن إسلامه، كان يتصف بين الناس بخلقه الكريم وصدقه وأمانته.
فالرسول “صلى الله عليه وسلم” كان أمينًا في حمل رسالة الإسلام إلينا، ورغم ما لاقاه من الشر، والعدوان، فإنه لم يتوان لحظة عن تبليغ دعوة الإسلام وتوصيلها إلى الأمة أجمعين، وهو بحفظه للأمانة كان السبب في إقامة الإمبراطورية الإسلامية، وأفنى بأمانته مظاهر الجاهلية والتعصب، والتفرقة بين القبائل، وغيرها من المظاهر التي لم يرض عنها الإسلام.
وكما قلت آنفًا: كان الرسول “صلى الله عليه وسلم” يلقب بالصادق الأمين، فكان الناس يحبونه لصدقه وأمانته، ويودعون عنده الأمانات دون خوف عليها، والسيدة خديجة “رضي الله عنها” كانت تأتمن سيدنا محمد “صلى الله عليه وسلم” على تجارتها، دون أن يخالطها شك أنه قد يكون طماعًا، فالرسول “صلى الله عليه وسلم” كان يحافظ على تجارتها ويعود إليها بأضعاف ما أملت من الأرباح.
والأمانة في اللغة، ضد الخيانة، والأمن: معناه طمأنينة النفس، وزوال الخوف منها. وفي الاصطلاح؛ فإن تعريف الأمانة: هي كل حق يلزم حفظه وأداؤه.
وفي أقوال عن معنى الأمانة، قيل: (التَّعفُّف عمَّا يتصرَّف الإنسان فيه مِن مال وغيره، وما يوثق به عليه مِن الأعراض والحرم مع القدرة عليه، وردُّ ما يستودع إلى مودعه).
وقال الكفوي: وقال الكفوي: (كلُّ ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار).
والأمانة، لا غرو، لها فضائل كثيرة دنيوية وفي الآخرة، يفوز بها إذا اتصف بها والتزمها، وعمل لأجل تثبيتها في نفسه، وصارت سيرته بين الناس أول ما يقال عنه أنه (أمينٌ).
وإذا نظرنا في تلك الفضائل في الدنيا، نجد أن الأمانة تؤدي إلى نوع من الثقة المتبادلة بين الأفراد، فلا يشككون أن يكذبون الذي يتصف بالأمانة، ويشعرون بالطمأنينة تجاهه، والارتياح للتعامل معه، وذلك الشعور بالارتياح يولد الحب والمودة، ويبعث الخير بين الناس، فالإنسان الأمين، هو إنسان خيِّر، والخير لا يلقى إلا الخير.
وفي الآخرة، فإن الإنسان يفوز بجنة الله “سبحانه وتعالى” لأن من يلتزم بالأمانة فإنه يطبقها في كل ما هو واجب عليه في الدنيا، فالأمانة أنواع سأتطرق إليها فيما بعد، ومن التزم بالأمانة في كل أنواعها، وعلى كل مستوياتها، شعر برضا في روحه، وهو ناتج عن رضا الله عنه، ومن يرض الله عنه يفز بالجنة “إن شاء الله”
دروب الأمانة
قلت أن الأمانة أنواع ودروب، إذا التزم بها الإنسان، وحرص على تطبيقها في نفسه دون أن يحيد عنها بفعل شهوة أو مغريات، فإنه يشعر بالرضا تجاه نفسه، ويرض الله عنه في الدنيا والآخرة، ويرزقه كل الخير نتيجة أمانته التي حافظ عليها.
وأول درب من دروب الأمانة، هي الأمانة في العبادة، فلا يتساوى عند الله ذلك الإنسان الملتزم بأداء صلواته وعباداته، في مواقيتها، محاولًا الخشوع فيها قدر المستطاع، وذلك الذي يؤديها لمجرد تأدية الواجب، دون أن يستشعر حلاوتها في روحه.
وأمانة العبادة، في نظري، ليست مقتصرة على العبادات التي فرضها الله “سبحانه وتعالى” على العباد، بل الأمانة في العبادة تعني أن يتحرى الإنسان كل الطرق التي يشكر بها الله “سبحانه وتعالى” على نعمه، ولأنه خلقه على الدين الصحيح، وزرع فيه نفسًا صحيحة لا تشوبها فتنة، هذه الأمانة، هي التي تجعل المتصدق ينفق مما رزقه الله بحب وعطاء، دون تأزم أو تأفف، والإنفاق لا يقتصر على المال، بل الإنفاق يكون بالمال، والعلم، والابتسامة، وكل ما ميز الله به أحد من عباده ووهبه وفرة منه. ذلك هو أول درب من دروب الأمانة التي يجب أن يلتزم بها الإنسان، بل وأعظم درب يجب أن يتمسك به الإنسان.
والدرب الثاني من دروب الأمانة، هو أمانة حفظ الجوارح، والجوارح تشتهي أمورًا كثيرة، وتتعطش لها، والنفس بشيطانها يسهلون أمامها الشهوات. لكن إهدار الجوارح في كل ما يغضب الله، أو في الشهوات، لا يعد حفظًا للأمانة التي وضعها الله فينا، فالله وهبنا نعمة البصر لا لننظر إلى ما يغضبه، بل أمرنا أن نحفظ بصرنا، وأن نستفيد بعيوننا فيما ينفع ويفيد، في القراءة وتلقي العلم، والكتابة، والعمل، وكل ما لا نستغنى عنه بالعين، دون التعرض لما يغضب الله، وتلك هي حفظ أمانة الجوارح.
لا نمد أيدينا للسرقة، بل نمدها للعطاء، والمساندة، والعمل، وذلك هو حفظ الأمانة. ولا نفتح أفواهنا بتوافه الكلم، أو المزاح بسبب ودون سبب، أو السب والإهانة وتدمير الآخرين، بل نفتح أفواهنا لنعبر عما يجيش في عقولنا من علم، ومنطق، وعمل، والحث على رضا الله، وتعليم الآخرين الأخلاق، وغيرها من أشكال حفظ أمانة الجوارح.
والدرب الثالث من دروب حفظ الأمانة، هو أمانة العمل؛ فالعامل الذي يحافظ على عمله، ويؤديه بإتقان وشغف وحب، هو عامل قد وعى أمانة العمل، والتزم بها، فيأتيه الخير من وراء عمله، ويرزقه الله أضعاف ما توقعه، وجعل جزاء أمانته في حياته وآخرته، ولا يتساوى أبدًا مع ذاك الذي يؤدي العمل بإهمال، ويهرب منه أكثر ما يقضي الوقت في إنتاجه.
والدرب الرابع من دروب الأمانة، هو الأمانة في العهود، وأمانة العهد تشمل كل ما يتعهد به الإنسان تجاه إنسان آخر، سواء عاهده على أداء عمل له في وقت محدد، أو عاهده على مقابلته في وقت محدد، أو أي عهد يتعهد به الإنسان تجاه إنسان آخر، فمن التزم الأمانة في العهد، وحافظ على كلمته التي يتفوه بها أمام الغير، فإنه يلقى الثقة من الآخرين، ولا ينبذونه أو يبتعدون عنه، ويصدقونه لأنه صادقهم في مواعيده وعهوده وكلامه وأفعاله.
والدرب الخامس من دروب الأمانة، هو أمانة حفظ الودائع؛ فالإنسان إذا قصده أحد أن يودع شيئًا ما عنده، وطمع فيه لنفسه، فإنه لم يحافظ على الأمانة وسيوقع نفسه في المشاكل في مجتمعه بين الأفراد، وعند الله حين يسأله عما أخذه وليس من حقه. أما من يلتزم بحفظ الودائع عنده، فإنه يصبح أمينًا عليها وعلى غيرها، ولا يدخل جوفه أو جيبه شيئًا لا يحق له، ويحظى بالود والمحبة بين الناس والصدق، وينال جزاء أمانته عند الله “سبحانه وتعالى” تلك هي دروب الأمانة التي إذا سلكها الإنسان والتزم فيها، نال فضلها في الدنيا والآخرة.