يقول القائل في ابيات تصف رمضان السابقين وعزيمتهم واتقانهم وفهمهم لمعني الصوم ومقاصده:
صَامَ النبيُّ وَصَحْبُهُ فتبرّؤوا عَنْ أن يَشيبوا صَوْمَهم بألعابِ
صَقَلَ الصّيامُ نفوسَهم وقلوبَهم فَغَدَوا حَديثَ الدَّهرِ والأحْقابِ
صَامُوا عن الدّنيا وإغْراءاتِها صَاموا عَن الشَّهَواتِ والآرابِ
سارَ الغزاةُ إلى الأعادي صُوَّماً فَتَحوا بشهْرِ الصْومِ كُلَّ رِحَابِ
مَلكوا ولكن ما سَهَوا عن صومِهم وقيامِهم لتلاوةٍ وَكِتابِ
هُم في الضُّحى آسادُ هيجاءٍ لَهُم قَصْفُ الرّعودِ وبارقاتُ حرابِ
لكنَّهم عند الدُّجى رهبانُه يَبكونَ يَنْتَحِبونَ في المِحْرابِ
أكرمْ بهمْ في الصّائمينَ وَمَرحباً بِقدومِ شهرِ الصِّيدِ والأنجابِ
ولأن الفرق جد كبير بين ملامح شهر الصيام في عهد القدامى من الصحابة والتابعين وبين ملامح شهر الصيام في عهدنا نحن، فسنخوض تجربة للمقارنة السريعة بين ما كان وما صار، لنعرف كيف كان الصحابة يغتنمون شهر الصيام في بناء أنفسهم ودينهم ودنياهم معًا بلا وهنٍ لا ضعفٍ، ولعلنا نجد في تلك السطور الصوة المثالية التي نبحث عنها لشهر رمضان المبارك.
كيف كان السابقون يصومون ويفطرون؟
كان صوم السابقون المخلصون الذين صدقوا الله ما وعدوه صوم تامٌ كاملٌ، لا تشوبه شائبة قدحٍ أو نقصٍ، فكما كانوا يمتنعون عن الطعام والشراب كانت جوارحهم تمتنع وتصوم تمامًا عن كل ما يغضب الله عز وجل، فلا يبطشون بضعيف ولا يطغون على ذي حاجة، ولا يطلقون أبصارهم لتتبع عورات غيرهم، ولا تقع أعينهم على ما لا يجوز لهم، أما ألسنتهم فكانت تحت سيطرتهم وإمرتهم، فلا يطلقونها بغيبة ولا نميمة ولا يخوضون في عرض غيرهم، ولا يتحدثون في فضول القول أو ما لا حاجة لهم به.
أما فطرهم فكان تحلة من الصوم بتمر أو ماء أو يسير طعام، وكان الإيثار على النفس سجيتهم وديدنهم، يكرمون ضيفهم ويحسنون على العابرين بديارهم ولو كان ذلك على حساب أنفسهم، فكانوا يأكلون ليسدو جوعهم ويتقوون على ما خططوا من العبادة والجهاد.
أما نحن فنصوم عن الطعام والشراب، ونطلق العنان للنظر واللسان، فلا نتورع عن مشاهدة ما لا يليق بشهر الصوم، ولا قول ما لا يليق بحرمة الصوم، ونفني أوقاتنا في انتقاء صنوف الأطعمة – إلا من رحم الله- وكأن الهدف من الصيام هو ادخار وجبات النهار إلى الليل، وتأخيرها حتى أذان المغرب، فنسأل الله العفو والعافية والسلامة مما كسبت أيدينا.
كيف كان حال ليلهم ونهارهم؟
كان الصحابة والتابعين من المسلمين إذا قدم عليهم شهر الصوم شمروا له وشحذوا هممهم وطاقاتهم، وترفعوا عن صغار المهام وسفاسف الأمور، فكانوا إذا ما استقبلوا الليل عمروه بالخلوات والصلوات والاذكار وتلاوة القرآن والتضرع إلى الله عز وجل بالدعوات والرغبات، فكان الواحد منهم يقوم الليل بالقرآن كله أو بعضه، وكان الآخر يختم القرآن الكريم مرة بعد المرة بلا فتور ولا ضجر ولا كسل.
وكانوا إذا قدم النهار استقبلوه بصوم تام عن كل شهوة مباحة وعزوف وزهد في متاع الدنيا بأسرها وكل صنوف شهواتها، وإقبال على هموم الإسلام وقضاياه، فيحاربون أعدائه ويوسعون رقعته وينشرون دعوته في ربوع الأرض قاطبة، كانوا يحاربن وهم صائمين ولا يبالون بمشقة الصوم أو ضعف الجوع والعطش، بل كانوا يقتحمون ساحات المعركة بقلوب لا تخشى الردى، بل تطلبه وبأرواح لا يؤرقها توقع الجروح أو الكسور بل يغريها الجهاد وتستهويها الشهادة، ويروقها بلوغ النصر على الأعداء.
أما حالنا نحن مع ليل رمضان فمختلف تمامًا، فبين السهر ومتابعة التلفاز وما يقدمه من الغث والثمين، وبين تناول الوجبات والحلويات وتبادل الزيارات والسهر مع الاهل والخلان، وربما استدعينا على مائدة اجتماعنا وسهراتنا سيرة بعض الخلق واقحمنا أنفسنا فيما لا ناقة لنا فيه ولا جمل، حتى إذا ما قارب الليل على الانتهاء تناولنا وجبة السحور وأدينا صلاة الفجر ورحنا في ثبات عميق، لتمضي علينا ساعت النهار ونحن في نومنا نتقلب غير مدركين لمعنى الجهاد لا متذوقين لمشقة الصيام، فمعظم الناس يقبل عليهم نهار رمضان ويذهب وهم نيام، والأدهى من ذلك من يتخذون من بيوت الرحمن أسرة وفرشًا فتراهم يقضون جل نهارهم نائمين في المساجد، وكأنهم يسخرون من مقصد الصوم وغرض المجاهدة،، وهذا لعمري حالنا مع رمضان، بعد مضي قرن من الزمان على الصحابة الكرام والتابعين الأوائل، الذين شغلهم أمر دينهم عن دنياهم، وأمر معادهم ولقيا ربهم عن توافه الأمور، وشغلهم تطلعهم إلى متاع الجنة ونعيمها المقيم عن المتع المؤقتة والزائلة في دنياهم العابرة.
وأخيرًا: يجب أن نتعلم من الصحابة ونقتدي بهم ونحاول الوصول إلى درجاتهم، وننشغل بما كان يشغلهم لنكون من الناجين مثلهم، ونرافقهم بإذن الله في جنات الخلد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.