تحت شعار «خصوصيتي» أصبحنا نعيش في عوالم مختلفة
العلاقة بين الخصوصية والجماعية في الواقع المعاصر علاقة ديناميكية جدلية مركبة؛ فهي علاقة من ناحية ذات طبيعة متغيرة يتم تشكيلها بشكل مستمر، فهي ليست ساكنة، بل تتأثر بالتاريخ والجغرافيا والتكنولوجيا وتحول المجتمعات وتغول السلطات، ومن ناحية أخرى هي متعلقة بالتنازع والتدافع المستمر بين السياسة والاجتماع والاقتصاد، أي الأسرة والسلطة والسوق، كل دائرة تسعى لتوسيع هامش تداخلها مع الأخرى لصالحها، وصبغ المشهد برمته بقيمها المختلفة جوهريا عن قيم الدوائر الأخرى.
منعطف التغيير
في التصور الإسلامي: الأصل هو: أن تصبغ الأسرة الدوائر الأوسع بأخلاقياتها، {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضا} [الحجرات:12] الذي هو أدب للمواطنة والمجال العام المدني وليس خلقا للصداقة فقط.
و{اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] لا تنافس بغيض على السلطة بأي ثمن، و{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الحج:41] لا داسوا على رقاب العباد، وسجنوا أهل العزم والجهاد، وباعوا ثروات البلاد.
أما في أمور المال والتجارة التي لا مجال فيها عادة للفضل، بل سعي للكسب ف”لا يبع أحدكم على بيع أخيه” (الذي ليس أخا الدم بل أخا العقيدة).
و{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] الذي هو مبدأ تحويل المال لأداة وليس لغاية، وتقديم الإنساني على الربح.
بل.. {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}[البقرة:280]، وكأن هناك حثا على المعروف، وتشجيعا على التحايل لحفظ كرامة البشر، يقرض الرجل أخاه أو المرأة أخا الدم أو العقيدة بدلا من منحه المال في أزمته فلا يشعر أنه أقل شأنا، بل علاقة ندية واقتراض لدين.. سيرده، ويتفق الطرفان، وحين يعجز يكون الفضل أكرم من اقتضاء الدين، فإن اقتضى اقتضى سمحا لا مَنّ ولا أذى.
مشكلة الأجيال السابقة كانت هي أن المجتمع تغول على مساحة الحرية، وأن التقاليد ألزمت الناس بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، وكان منعطف التغيير في رسالة الإسلام هو إحداث نقلة باتجاه تأكيد فردية الإنسان وحقوقه في ظل جماعة يدين لها بالواجبات وتدين له في المقابل بالحقوق، بدءا من حقه في الخصوصية وعدم التدخل في شئونه التي يجب أن لا تعني أحدًا «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، ومرورا بحقه في التصرف في المال، وكفالة الذمة المالية للمرأة، وحقها في اختيار الزوج، وكذا عند استحالة الاستمرار.. الحصول على الطلاق، ووصولا للحق في اختيار العقيدة والمذهب {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256].
الفردية والمجموع
مشكلة الواقع المعاصر هو أن الفردية تكرست على حساب المجموع بما أصبح يمثل تهديدا لتماسك وترابط المجتمعات، وهي مشكلة لمستها في الكثير من البلدان والدوائر، وتسبب قلقا حقيقيا لمن يهتمون بمستقبل شعوبهم ووحدتها الثقافية في عالم تجتاح فيه التيارات المادية والسلع الاستهلاكية أسواق الفكر وأسواق الاقتصاد، وتعصف بما يقف أمامها، لذا فنحن في حاجة لتأكيد فكرة الجماعة، انطلاقا من خصوصية الفرد ووصولا لمفهوم مرن ومركب وعميق للخصوصية الثقافية لا يغفل وحدة الإنسانية وسنن الله في المجتمعات، وإلا كنا كمن يدفن رأسه في الرمال.
الفردية لم تكرسها الليبرالية، ولا الثقافة التي تستهلك لتحقيق اللذة العاجلة على حساب رفاهية الجماعة فقط، بل كرستها التكنولوجيا.. أفتح حاسوب الأولاد حين تنفد طاقة حاسوبي فأجد لكل منهم حسابا خاصا بكلمة سرية.. “خصوصيتي” يقول كل واحد منهم، وعلى هاتفه كلمة سرية مثلها، وعلي أن أستأذن قبل دخول غرفهم “لا تقتحمي علينا الغرفة هكذا يا ماما”.. وكأننا نعيش في عوالم مختلفة.
خصوصية في الاستماع لما يحبون، فلكل واحد “آي بود”، وهاتف نقال، وخصوصية في دولاب الملابس، فقد مضى عهد تشارك الأبناء في الملابس والأحذية، الآن كل واحد يشعر بنفسه وذاته ولا يحب المشاركة، وتضخمت الذات بفعل ثقافة العولمة والاختيارات التي تتيحها بما يجعل العودة لتكريس فكرة الجماعة والتفكير بصيغة الجمع مسألة هامة تحتاج تضافر السياسات التعليمية والإعلامية وتلاحم الجهود المدنية والجماعية.
معركة الخصوصية ذات وجهين: أن نحرص على استمرار المكاسب التاريخية التي حققها الإسلام من خصوصية الفرد، لكن نحقق التوازن مع واجباته تجاه الجماعة وشعوره بالانتماء وضرورة المشاركة في مجالات عامة وبناء هوية تسكن الفردية في مكانها الصحيح على خريطة المجتمع، وهو من التحديات الصعبة، فالأسهل مصادرة الفرد من ناحية، والأكثر إغراء من الناحية الأخرى تجاهل الجماعة وصولا لتغيير الفرد للمواطنة والجنسية.. بل الهوية.
ويبقى التحدي هو: القسط في الكيل والميزان.
بقلم: د. هبة رؤوف عزت
⇐ طالع أيضًا المزيد من المقالات::