“نشتري زيت الطعام المستعمل بـ35 جنيهاً للكيلو”، “نشتري بواقي زيت الطعام وزيت السمك”… من المؤكد أن معظم المصريين قد سمعوا تلك العبارات، بل وربما تمر عربة الآن أسفل نوافذهم تنادي بهذه العروض بينما هم يشاهدون التلفاز. لقد اعتاد الشعب المصري مرور عربات “الروبابيكيا” التي تنادي على الخردة والمعادن والبلاستيك، لكن ما يلفت الانتباه مؤخراً هو انضمام صنف جديد إلى هذه القائمة: زيت الطعام المستعمل.
الأمر أثار تساؤلات عديدة بين الناس، فالكثيرون لا يعلمون ما الغرض من جمع هذا الزيت ولماذا تُدفع فيه أموال؟ فما الذي يُفعل بهذا الزيت بعد جمعه من المنازل؟
في البداية، وعلى الرغم من أن زيت القلي المستخدم يتغير لونه وتركيبته الكيميائية بعد الاستخدام، مما يجعله مضراً بالصحة عند إعادة استخدامه في الطهي، إلا أنه لا يزال صالحاً للدخول في صناعات أخرى مهمة – بالطبع غير غذائية – أبرزها صناعة الوقود الحيوي أو ما يُعرف بالبيوديزل.
ففي أواخر القرن التاسع عشر، تمكن المخترع الألماني “رودولف ديزل” من تشغيل محرك ضخم باستخدام زيت نبات الفول السوداني كوقود، مما شكّل نقلة ثورية في عالم الطاقة. لكن، وبسبب انخفاض أسعار البترول آنذاك، لم تلقَ هذه الفكرة رواجاً. اليوم، ومع تفاقم أزمة التلوث ونُدرة الموارد الطبيعية، عاد الباحثون ليُسلطوا الضوء مجدداً على الوقود الحيوي كخيار مستدام، خاصة وأن انبعاثاته الكربونية شبه معدومة.
من هنا تتجلى العلاقة بين زيت الطعام المستعمل والبيوديزل؛ إذ أن دولاً عدة بدأت بالفعل بجمع هذا الزيت من المطاعم والمنازل، ثم إعادة تدويره وتحويله إلى وقود يُستخدم لتشغيل الآلات والمعدات. وفي مصر، توجد اليوم حوالي 26 شركة مرخصة تعمل على إعادة تدوير الزيت المستعمل وتحويله إلى بيوديزل، إلا أن إنتاجها لا يزال محدوداً، وهو ما يفسر عدم انتشار المعرفة بهذه العملية بين الناس.
لكن ليست كل الكميات التي يتم جمعها تُستخدم في الوقود الحيوي؛ فالكميات الفائضة تُصدّر كزيت خام إلى بعض الدول الأوروبية التي تُعيد تدويره أيضاً، وتستخدمه في تشغيل وسائل نقل مثل القطارات والحافلات، حتى أن بعضها يعمل بنسبة 100% على البيوديزل.
ومع ذلك، لا يقتصر استخدام الزيت المستعمل على صناعة الوقود الحيوي فحسب. إذ يمكن الاستفادة منه في عدة صناعات أخرى، مثل صناعة الصابون، وذلك من خلال عملية “التصبين” الكيميائية، التي تعتمد على تفاعل قاعدة قلوية – غالباً هيدروكسيد الصوديوم – مع الدهون، أي الزيت في هذه الحالة. لذا، يتم تنقية الزيت المستعمل ليُستخدم في صناعة الصابون وبعض مستحضرات التجميل.
إلى جانب ذلك، يُعاد استخدام بعض أنواع الزيوت المستعملة في صناعة علف الحيوانات، حيث تُضاف كميات مدروسة منها إلى العلف لزيادة محتواه من الدهون، بشرط أن تكون الزيوت من نوعية جيدة نسبياً وقليلة الشوائب. ويشيع هذا الاستخدام بشكل خاص في بعض المزارع بأستراليا.
وليس هذا فحسب، فهناك استخدامات أخرى مثل صناعة الأسمدة، إذ تساعد إضافة الزيت إلى السماد الطبيعي على تسريع عملية التحلل وتقليل الروائح الكريهة، التي لا تقتصر أضرارها على الإزعاج فحسب، بل تجذب الآفات أيضاً. وقد طور فريق بحثي في جامعة فلندرز الأسترالية بوليمراً سمادياً من الكبريت وزيت الكانولا المستعمل، يحتفظ بعناصر النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم، ويُطلقها تدريجياً في التربة.
ويُستخدم الزيت المستعمل أيضاً في صناعات متعددة مثل المبيدات الحشرية، الشمع، زيوت التشحيم، وبعض أنواع الدهانات والطلاء.
لكن السؤال الأهم هنا: هل تُستخدم كل كميات الزيت التي تجمعها عربات “التروسيكل” الصغيرة في هذه الصناعات المفيدة؟
المؤسف أن الإجابة – بنسبة 99% – هي لا. فبرغم وجود جزء صغير يُستخدم بالفعل في صناعة البيوديزل أو الصابون، إلا أن النسبة الأكبر يُعاد تدويرها بطرق غير قانونية على يد بعض معدومي الضمير، حيث يُضاف إلى الزيت المستعمل مادة مبيّضة تُعيد لونه الذهبي الزائف، ثم يُصفّى من الشوائب، ويُعبأ في زجاجات جديدة وكأنه زيت طازج، ويُباع في الأسواق على أنه منتج مصنع!
وفي العام الماضي فقط، ضبطت هيئة حماية المستهلك مصنعاً في الجيزة يحتوي على أكثر من 40 طناً من الزيت المستعمل، جُمعت من المنازل وتمت معالجتها وتعبئتها في زجاجات بأسماء تجارية وهمية، ثم بيعها في الأسواق. والمثير للقلق أن هذا ليس حادثاً فردياً؛ ففي القليوبية، تم ضبط مصنع يحتوي على طن ونصف من الزيت المستعمل، وفي المنوفية 10 أطنان، وفي الشرقية 36 طناً، أما الكارثة الكبرى فكانت في القاهرة، حيث تم العثور على 2300 طن من الزيت المستعمل داخل مصنع غير مرخّص، و10 آلاف زجاجة فارغة بأسماء علامات تجارية مزيفة.
هذه الأرقام تثير القلق، وتؤكد أن معظم الزيت الذي يتم جمعه من البيوت لا يُستخدم في صناعات نافعة، بل يُعاد تدويره بشكل خطير ويُعاد بيعه للمستهلكين، مما يشكل كارثة صحية.
والأسوأ من ذلك، أن قلي الطعام في الزيت عدة مرات يؤدي إلى تحوّل الدهون إلى دهون متحولة (Trans fats)، ما يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب وتصلب الشرايين، كما تُنتج الجذور الحرة التي تُضعف المناعة وتسبب الالتهابات المزمنة، وتزيد من فرص الإصابة بالسمنة، السكري، بل وحتى السرطان. فما بالنا إذا كان الزيت المستخدم قد أُعيد تدويره بعد انتهاء صلاحيته، وتم تبييضه بمواد غير معلومة!
وهنا يطرح الناس سؤالاً مهماً: ماذا نفعل بزيت القلي المستعمل إذن؟
أولاً، لا يجوز بأي حال من الأحوال التخلص منه في حوض المطبخ أو شبكة الصرف الصحي، لأن الزيت يسبب انسداد المواسير، ويؤثر على كفاءة محطات معالجة المياه. كذلك، يُفضل عدم بيع الزيت لأي جهة غير معروفة، لأننا بذلك نُسهم في دورة فساد غذائي قد نكون نحن أنفسنا ضحاياها.
بإمكان من يريد الاستفادة من الزيت المستعمل أن يُصنع منه صابوناً منزلياً، وهي عملية بسيطة ومسلية في الوقت ذاته. كما يمكن التواصل مع وزارة البيئة عبر الخط الساخن، حيث توفر الوزارة خدمة جمع الزيت من البيوت، بل وتمنح المواطنين هدايا أو زيوتاً جديدة مقابل ذلك.
أخيراً، يجب التنبيه إلى أن بعض الناس انتشر بينهم مؤخراً ترند ينصح بإضافة النشا إلى الزيت المحروق لإزالة الشوائب وإعادة لونه الذهبي. غير أن هذا الإجراء يُنقّي الزيت ظاهرياً فقط، بينما يبقى الزيت محتوياً على مركبات ضارة للغاية، وينبغي التخلص منه بعد استخدامه ثلاث مرات كحد أقصى، وفقاً لتوصيات الجهات الصحية.
إن التعامل مع زيت الطعام المستعمل هو مسؤولية جماعية، تبدأ من كل بيت، وتنعكس على صحة المجتمع بأكمله. فلنتعامل معه بحذر، حتى لا ندفع ثمن الإهمال بأجسادنا وصحة أبنائنا.