الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، لقد بين لنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- ما أحل لنا من الأفعال والأقوال والأموال، وبين لنا ما حرم علينا من كل ذلك، وللتحريم عدة أساليبٍ منها ما كان باستخدام لفظ التحريم نفسه، ومنها ما ورد بعد التعبير بالنهي، وهناك أسلوبٌ مختلفٌ جرى استخدامه لبيان تحريم بعض الأمور، وهذا الأسلوب ينطوي على الوعيد والتهديد ويشوبه معنى الطرد من الإسلام، والخروج من دائرته وترك الانتماء إلى صفوف أهله، وهو أسلوب (ليس منا).
فقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- عدد من الأمور المذمومة شرعا وصدرها بجملة ليس منا، ليبين أن من فعلها فإن الإسلام براء منه وليس كفيلا له، ولكن قبل أن نخوض في هذا السياق يجب لفت الانتباه هنا أن المقصود بهذا الإخراج والطرد التخويف والإنذار ونفي تمام الإيمان عن كل من يأتي بشيء من الأمور التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يعني الخروج عن ملة الإسلام على وجه الحقيقة، أو الكفر الصريح والعياذ بالله، ومن تلك الأمور ما نوضحه بإذن الله تعالى في السطور القليلة التالية.
شق الجيوب ولطم الخدود
كلنا معرضون لأن نصاب بابتلاءٍ أو نفقد حبيبًا، وتلك لاشك صدمة كبيرةٌ ووجعٌ لا حدود له، يعتصر القلب ويفقد العقل اتزانه ويشل تفكيره، فيصبح الحزن والفجيعة سيدا الموقف، وكل مصاب يعبر عن حزنه بالطريقة التي تناسبه فمن الناس من يبكي، ومنهم من يصمت، ومنهم من يصرخ، وللأسف منهم من يفقد أعصابه فتراه يشق الثياب ويلطم الخدود أو يردد كلمات من كلام الجاهلية ما أنزل الله بها من سلطان، فيها من الجهل والسخط والاعتراض على أمر الله ما فيها، وفيها كذلك نوع من سوء الأدب مع الله لذا بين لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- حدود ما يجوز في التعبير عن الحزن والألم، فأجاز البكاء ولكنه حرم الإفراط فيه والكلام أو الخروج عن حدود الأدب مع الله، فقال في حديث رواه عبد الله بن مسعود: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية).
إيذاء الجار، وعدم الشعور باحتياجه
أوصى الإسلام بالجار كما لم يوص بأحد غيره، وشدد على أمر الإحسان إليه وتقديم المعروف له والسؤال عنه، وبالغ في التوصية به لدرجة جعلت النبي يظن أن جبريل عليه السلام سيورثه، وواصل الحث بنفس الدرجة، ونفر من إيذاء الجار أشد التنفير وحذر منه أكبر تحذير، وجعل أي مظهر من مظاهر إيذاء الجار أو التعرض له بما يثير خوفه أو قلقه أمر يستوجب نقصان الإيمان ويقدح فيه، فقال: (ليس منا من لم يأمن جاره بوائقه) أي أذاه وضرره.
وقال في موضع آخر (ليس منا من بات شبعان وجاره جائع، وهو يعلم به)، وهذا أبلغ في الأمر بالإحسان إذا لا يكتفى بكف الأذى عنه بل بمد يد الخير والعون له.
التطاول على الكبير وعدم رحمة الصغير
كما بين لنا الإسلام حدود الحلال والحرام في الأفعال والأقوال والكسب، فقد وضع ضوابط وحدود لعلاقة الإنسان وطريقة تعامله مع من هم أكبر منه سنا ومن هم أصغر منه، لتكتمل منظومة الأخلاق ومكارمها التي حث عليها الإسلام وجاء ليتممها.
المسلم الحق مأمور باحترام الكبير وتوقيره وعدم التطاول عليه، أو التجاوز معه في القول أو الفعل، لأن كبر السن أو تقدم العمر مظنة أمر من اثنين، أحدهما العلم والخبرة الواسعة والفهم الذي ينشأ عن تجارب الحياة ودروسها التي تزيد عند الإنسان كل يوم، ثانيهما أن كبر السن مظنة الضعف والهرم والاحتياج الذي يأتي بعد قوة الشباب وريعانه، فيكوون الإنسان أكثر حساسيةً لكل ما يقال له، وأكثر احتياجًا لما يجبر خاطره ويشعره بالمكانة والاحترام والتقدير، وكلا الأمرين يستوجبان الاحترام والتوقير. أما صغر السن وحداثته فهو مظنة الضعف والبراءة وقلة الخبرة، مما يستجب الرحمة والعطف.
لأجل ذلك وأكثر أمر النبي -صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- إذ يقول -عليه الصلاة والسلام-: (ليس منا من لم يوقر صغيرنا ويرحم كبيرنا).
ويتضح لنا من كل الأحاديث السابقة أن الإسلام دين شامل كامل لم يترك بابا من أبواب الخير إلا دعا إليه وحث عليه، ولم يترك بابا من أبواب الشر إلا أوصده وحرص على إغلاقه.