في البداية، وقبل أن نخوض في إجابة هذا السؤال، دعونا نتساءل: لماذا يبكي الإنسان أساسًا؟ ولماذا تفرز أعيننا الدموع باستمرار؟
ربما يرد البعض قائلًا: “يا ابن الحلال، جئت في الوقت المناسب! أنا أبكي كل ليلة حين أكون مجروحًا أو مثقلًا نفسيًا، أو عندما تضيق بي الدنيا.”
لكن في الحقيقة، هذا ليس ما نعنيه هنا. نحن لا نتحدث عن معاناتك أو أحزانك الشخصية، ولسنا في جلسة علاج نفسي! السؤال هو عن العملية الحيوية التي تحدث داخل أجسامنا لتحفّز العين على إفراز الدموع.
في الواقع، هناك عدة أسباب تدفع الجسم إلى إنتاج الدموع. أول هذه الأسباب هو المشاعر، سواء كانت سلبية مثل الحزن، الغضب، والخوف، أو حتى الجوع، أو مشاعر إيجابية كالسعادة والبهجة. فكل هذه الحالات تعمل كمحفز لإفراز الدموع.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن دموع المشاعر، التي تحتوي على نسب عالية من هرمونات التوتر وبعض المواد الكيميائية، تعمل كـمسكّن طبيعي للجسم، مثل الإندورفين. وهذا يفسر الجملة الشهيرة: “ابكِ يا حبيبتي حتى ترتاحي“، والتي لم تكن مجرد تعبير عابر.
أما السبب الثاني، فهو ما يُعرف بـالدموع القاعدية. وهذه دموع تُفرز باستمرار بكميات قليلة بهدف حماية قرنية العين، وتنظيفها، وترطيبها على مدار الوقت.
ونصل الآن إلى النوع الثالث، والأهم في موضوعنا، وهو الدموع اللا إرادية. هذه الدموع تُفرز تلقائيًا عند حدوث أي التهابات في العين أو دخول أجسام غريبة إليها. وتكمن وظيفتها في غسل العين، ترطيبها، وتعقيمها، إذ تحتوي على أجسام مضادة تقاوم البكتيريا وتطرد الأجسام الضارة.
تخيل مثلًا أن بعوضة مزعجة اخترقت عينك بكل قسوة، فإن دموعك تبدأ بالتدفق فورًا كمحاولة لتنظيف العين وطرد هذه “الدخيلة”.
أو تذكّر موقفًا شائعًا: أنت جالس على مكتبك تكتب، وفجأة، تقوم بحركة متهورة فتطير ورقة وتصيب عينك! في تلك اللحظة، تنهمر الدموع، لا لأنك متأثر بالموقف، بل لأن عينك تحاول معالجة ما حدث.
نعود الآن إلى نجم مقالنا: البصل.
البصل، وخاصة في الثقافة المصرية، عنصر أساسي لا غنى عنه. تجده في كل وجبة تقريبًا: من على عربية الفول حيث الحاج يستمتع بفحل البصل وكأنه يأكل تفاحة، إلى “ست الحبايب” في المطبخ التي لا تترك طبقًا دون أن تضيف إليه البصل. وحتى إن قررت أن تتعشى في مطعم فاخر، فستجد البصل في البيتزا أيضًا!
لكن الغريب، أنك ترى الجميع يبكون أثناء تعاملهم مع البصل، سواء في التقشير أو التقطيع، ومع ذلك، لا يبدو عليهم الضيق، بل كأن دموعهم دموع فرح!
فما السبب الحقيقي الذي يجعلنا نبكي عند تقطيع البصل؟
السر يكمن في البصلة نفسها، فبمجرد أن تبدأ بتقطيعها، تطلق مادة طيّارة تُدعى “سين-بروبانيثال-S-أوكسيد“ (Syn-propanethial-S-oxide).
هذه المادة هي المسؤولة عن كل شيء، فهي تتفاعل مباشرة مع أعصاب العين، وتسبب الشعور بالحرقان ثم تدفعها لإفراز الدموع.
لكن المدهش في الأمر أن هذه المادة لا تكون موجودة أصلًا داخل البصلة بشكل مباشر، بل تُنتج لحظيًا عبر تفاعل داخلي، كأن البصلة تمتلك “معملًا سريًا” يُفعّل عند الإحساس بالخطر – أي عندما تبدأ أنت في تقطيعها بالسكين.
البصلة من الداخل تحتوي على إنزيمات تُعرف باسم “الليينيز“، كما تحتوي على حمض أميني يُسمى “سلفوكسيد“. وفي الحالة العادية، يكون كل منهما في مكان منفصل داخل خلايا البصلة.
لكن بمجرد أن تقوم بتقطيع البصلة وتدمير هذه الخلايا، يلتقي الإنزيم بالحامض للمرة الأولى، ويبدآن سلسلة من التفاعلات الكيميائية التي تؤدي في النهاية إلى إنتاج مركب السين-بروبانيثال-إس-أوكسيد – وهو الغاز المتطاير الذي يصل إلى عينيك.
وبما أن هذا الغاز يحتوي على مركبات كبريتية، فهو يتبخر بسهولة وينتقل عبر الهواء. وعندما يصل إلى العين، تبدأ القرنية، التي تحتوي على أعصاب حسية شديدة الحساسية، بإرسال إشارات استغاثة إلى الجهاز العصبي المركزي، وكأنها تقول:
“النجدة! هناك غاز قادم من البصل يهددنا!”
فيستجيب الجهاز العصبي على الفور، ويأمر بإغلاق الجفون جزئيًا، لكن بما أن عينيك لا تزالان في مهمة “تقطيع”، فإن الجهاز العصبي يلجأ إلى الحل البديل: إفراز الدموع من الغدد الدمعية بكثافة لمحاولة التخلص من الغاز وتخفيف الضرر.
وبالتالي، فإن الأمر برمّته لا يتعلق بالبصل كطعام، بل بمكوناته الداخلية التي تتحوّل عند قطعها إلى قنبلة غازية صغيرة مسيلة للدموع.
وهذا يعني أنك لن تدمع عند تقشير البصلة فقط ما لم تجرح خلاياها الداخلية. لذا، إن كنتِ – يا “ست الحبايب” – تقشّرين البصل فقط، فاحرصي ألا تجرحيها أثناء التقشير حتى لا تدمعين.
ولكن، هل من حل لهذه الدموع؟
نعم، هناك عدة طرق يمكن اللجوء إليها للتخفيف من هذه المشكلة:
- تبريد البصل في الفريزر قبل التقطيع لمدة 15 دقيقة. البرودة تُبطئ التفاعلات الكيميائية، مما يقلل من كمية الغاز المتطاير. ولكن لا تُطِل المدة حتى لا تنتشر رائحة البصل في الثلاجة، فـ”ست الحبايب” لن ترحمك وقتها!
- تقطيع البصل تحت الماء، كأن تضعه في إناء مملوء بالماء وتبدأ التقطيع بداخله. الماء يمنع الغاز من التصاعد، لكن احذر! فالتقطيع تحت الماء أصعب ويتطلب دقة في التحكم.
- إشعال شمعة بجانب المكان الذي تقطع فيه البصل. اللهب يساعد على امتصاص جزء من الغاز المنبعث.
- التنفس من الفم بدل الأنف قدر الإمكان. هذا يمنع الغاز من الوصول إلى أعصاب الشم، فيقل التأثير.
- وأخيرًا، استخدام نظارات خاصة لوقاية العين من الغاز، وهي متوفرة في الأسواق. نظارتك على عينيك، سكينتك في يدك، وتوكل على الله وابدأ تقطيع!
وفي حال فشلت كل هذه الطرق، ووجدت نفسك تبكي مجددًا أثناء تقطيع البصل، فلا بأس… اعتبرها دموع فنية ناتجة عن الإبداع في الطبخ!