تخيل أنك تسير في طريق مظلم ليلاً، وفجأة ومن دون أي مقدمات، تظهر أمامك عينان تتوهجان في الظلام، تحدقان بك بهدوء، وما إن يوشك قلبك أن يتوقف من شدة الخوف، حتى تقترب منك تلك العينان وتصدر صوتًا هادئًا: “مياو”! لا تقلق، فهذه ليست مشاهد من فيلم رعب، بل مجرد قطة تقوم بما تفعله دائمًا في الليل.
في وضح النهار، تكون القطط هادئة ووديعة، خصوصًا خلال وقت القيلولة، لكن مع حلول الليل، تتبدل تمامًا وتتحول إلى كائن مختلف. عيونها تبدأ بالتوهج، ونظراتها تصبح ثابتة وعميقة، مما قد يسبب نوعًا من التوتر أو الخوف لمن لا يعرف السبب. إلا أن هذا التحوّل ليس سوى جزء طبيعي من تكوين القطط، وذلك لأنها ببساطة مخلوقات ليلية، على عكس العديد من الكائنات الأخرى مثل الفيلة، الزرافات، وبعض أنواع الطيور التي ينشط معظمها نهارًا.
لهذا السبب، منحها الله عز وجل قدرات فريدة وصفات جسدية معينة تساعدها على التكيف مع الظلام، وكان من أبرز هذه الخصائص، تركيب عيونها المميز.
تركيب عين القطة: مصباح ليلي طبيعي
عيون القطط تختلف عن العيون العادية، فهي مُهيّأة لتدعم غريزتها الأساسية: الصيد، الذي غالبًا ما يتم في ساعات الليل. لذلك، فإن عين القطة تمثل نوعًا من المصابيح الصغيرة، ذات المدى المحدود، تمكّنها من التنقل والصيد في الظلام، بينما تبقى فرائسها في عجز تام عن رؤيتها بوضوح، رغم وجودها في نفس المكان.
آلية توهّج عيون القطط يمكن فهمها من خلال تبسيط عملية الإبصار عمومًا. فعند الرؤية، يسقط الضوء على الأجسام ثم ينعكس منها إلى العين، حيث تستقبله المستقبلات الضوئية داخل الشبكية وترسله إلى الدماغ لتحليله. ولكن في الظلام، يكون الضوء ضعيفًا جدًا وقد لا يصل بكفاءة إلى تلك المستقبلات، مما يجعل من الصعب على الكائنات العادية أن ترى.
هنا يظهر الفرق، فعيون القطط تحتوي على طبقة عاكسة في الجزء الخلفي من شبكية العين تُعرف باسم “Tapetum Lucidum” أو “البساط الشفاف“، وهي طبقة شديدة الحساسية للضوء، تعمل كمرآة طبيعية بفضل احتوائها على عنصر الزنك وبلورات من مادة الرايبوفلافين، والتي تعمل كمرايا تعكس الضوء بكفاءة عالية.
فعندما تكون كمية الضوء ضعيفة ولا تصل إلى المستقبلات الضوئية، تتدخل هذه الطبقة العاكسة وتبدأ في تجميع أي ضوء خافت متاح، ثم تعكسه مجددًا نحو المستقبلات، لتمنح القطة فرصة أفضل للرؤية في الظلام. وهذا التجمع والانعكاس هو ما يجعل عيون القطط تبدو وكأنها تضيء من بعيد.
اختلاف شدة ولمعان عيون القطط
من اللافت أيضًا أن لمعان عيون القطط يختلف من قطة إلى أخرى، سواء في درجة اللمعان أو في لونه. فقد تلاحظ أن بعض القطط تلمع أعينها بلون أصفر باهت، بينما تظهر لدى أخرى بلون أحمر أو أخضر. وعلى الرغم من أن جميع القطط تملك نفس الطبقة العاكسة، إلا أن هناك عوامل عدة تؤثر في هذه الاختلافات، من أهمها:
- العمر: كلما تقدّمت القطة في العمر، تضعف قدرتها على الرؤية تدريجيًا، ويبدأ اللمعان في التراجع. في المقابل، تكون العيون أكثر توهجًا في سن الشباب.
- تركيبة المعادن: كمية الزنك والرايبوفلافين في العين تؤثر على كفاءة انعكاس الضوء، وبالتالي تلعب دورًا كبيرًا في درجة اللمعان.
- السلالة: بعض السلالات لديها ألوان لمعان مميزة. فعلى سبيل المثال، توهج عيون القطط السيامي يكون مائلًا إلى الأصفر، بينما القطط ذات الفراء الأبيض الناصع وعيون زرقاء غالبًا ما يظهر توهجها بلون أحمر.
هل تمتلك القطط أقوى بصر في الليل؟
رغم براعة القطط في الرؤية الليلية، إلا أن هذا لا يعني أنها تمتلك أقوى بصر على الإطلاق. فالمهارة التي تملكها تقتصر على الرؤية في الإضاءة الضعيفة فقط، لكنها لا تضاهي دقة الإبصار التي تتمتع بها بعض الكائنات الأخرى، مثل الصقور والنسور والعقبان.
على سبيل المثال، يُمكن للعقاب أن يراقب أرنبًا صغيرًا من مسافة تزيد على 3 كيلومترات، بينما القطة تحتاج إلى الاقتراب لمسافة 6 أمتار تقريبًا لرؤية الشيء نفسه بوضوح. هذا الفرق يعود إلى أن القطط تملك عددًا قليلاً نسبيًا من المخاريط (وهي الخلايا المسؤولة عن رؤية التفاصيل الدقيقة والألوان) مقارنة بتلك الطيور الجارحة.
قد تعتقد أن هذه مقارنة غير عادلة نظرًا لاختلاف أنماط الحياة بين الكائنات النهارية والليلية، وهو أمر منطقي. ولكن حتى ضمن الكائنات الليلية، لا تعتبر القطط الأفضل من حيث الرؤية. فهناك البومة، مثلًا، التي تملك أعينًا كبيرة جدًا في مقدمة الرأس، تمكّنها من التقاط أضعف الإشعاعات الضوئية، إلى جانب قدرتها الفريدة على تحريك رأسها بزاوية قد تصل إلى 270 درجة، مما يمنحها رؤية شبه كاملة لكل ما يحيط بها.
وبالتالي، فإن البوم يظل هو الملك المتوَّج عندما يتعلق الأمر بالرؤية الليلية، مقارنة بالقطط.
هل عيون القطط هي الوحيدة التي تلمع؟
من الجدير بالذكر أن لمعان العيون في الظلام ليس خاصًا بالقطط فقط، بل يشمل عددًا كبيرًا من الحيوانات الأخرى. غير أن ارتباطنا الدائم بالقطط في البيئات المنزلية والمحيط اليومي جعلنا نلاحظ هذا السلوك فيها أكثر من غيرها.
ومن بين الكائنات التي تتوهج أعينها ليلاً أيضًا: الكلاب، الذئاب، الثعالب، الدببة، الأسود، وحتى بعض الأبقار والغزلان. كما تشمل القائمة بعض أنواع الطيور مثل البوم، بالإضافة إلى مخلوقات بحرية مثل التماسيح وأسماك القرش، خاصة تلك التي تعيش في أعماق البحار المعروفة بظلامها الدائم.
في الختام
حين تلمع عيون قطة في الظلام، لا داعي للخوف أو القلق، فكل ما في الأمر أن الطبيعة زوّدتها بأداة بصرية رائعة تساعدها على التكيّف مع ظروف الحياة الليلية. إن توهّج عيونها ليس إلا دليلًا على براعتها الفسيولوجية، التي وإن لم تجعلها الأقوى من حيث دقة البصر، إلا أنها بالتأكيد واحدة من أبرع المخلوقات في استكشاف عتمة الليل.