المتأمل في الدنيا وأحوالها وأقدارها يعلم أنها لا يُؤمن غدرها، ولا تُؤمن خباياها، ويعلم أن من البلايا والأوجاع ما يسعى إليه الإنسان بنفسه، ويطلب أسبابها بإرادته دون وعي منه، فمعظمنا يشغل نفسه بما لا يخصه من أمر الخلق، ويبحث ويستقصي ليكتشف ما يوجعه، ويسيء الظن بخلق الله ولا يزال بهم حتى يثبت لنفسه أنه على حق، وحين يفعل يشعر بوجع الصدمة وحسرة الاكتشاف وألم الصفعة، وربما لو لم يبحث ويستقصي لما علم ما يؤلمه ولأعفى نفسه من كم الضغوط والآلام التي مني بها.
هنا سوف نتحدث عن أدب قرآني علمه لنا الله عز وجل في كتابه، وأوضحه لنا النبي في سنته، وهو النهي عن كثرة السؤل عما يخفى على الإنسان والكف عن التنقيب عن أشياء إذا ظهرت له نالت منه وآلمته وتسببت له في متاعب هو في غنى عنها، وذلك ما جاء في قوله عز جل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).
وهنا سوف نتناول الأسباب الواردة في نزول تلك الآية الكريمة، ونحاول استيعاب ما فيها من رسائل، واسقاطها على واقعنا لعلنا نحسن الفهم ثم نحسن الاتباع، فيكفينا الله شرورا تختبئ لنا في طيات القدر، ويحمينا من معرفة ما تضيق به الصدور.
سبب نزول الآية
ورد في سبب نزول تلك الآية الكريمة أكثر من قول، نفصلها لاحقا، ولكن نحب لفت النظر إلى أن العبرة ليست بخصوص السبب وإنما بعموم المعنى، بمعنى: أننا يجب أن نفهم الآية ونتبنى ذلك المبدأ في حياتنا عامة وليس فيما يتعلق بأمور الشرع خاصة، فالإنسان الحكيم لا يسعى وراء المشاكل ولا يستجلب المشقة بكثرة أسئلته وإلحاحه في طلب التفاصيل.
من الأقوال الواردة في أسباب النزول أن النبي خرج على أصحابه ذات يوم وقال: (لا تسألوا اليوم عن شيء إلا بينته لكم)، فأشفق الصحابة وخشوا أن يكون قد وقع أمر عظيم، فلف كل منهم رأسه وبكى، إلا أن قام رجل فقال يا رسول الله من أبي؟ وكان يُلاحى ( أي يدعى لغير أبيه) فقال أبوك حذافة، وسأل أخر: أين أبى، فقال النبي أبوك في النار، فنزل قول الله : (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
ومما ورد في سبب النزول: ما جاء عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله كتب عليكم الحج ” فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثا، فقال: ” من السائل؟ ” فقيل: فلان . فقال: ” والذي نفسي بيده، لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم”، فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) إلى أخر الآية، يؤخذ من قول النبي –صلى الله عليه وسلم – أن السؤال عن المسكوت عنه هو طلب للمشقة والتضييق.
وقد أكد النبي على هذا المعنى ونبه إليه المسلمين فقال في حديث صحيح: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها).
اسقاط المعنى على الواقع
لو تأملنا الأحداث من حولنا لاكتشفنا أن بعض الآلام والمتاعب نجلبها نحن لأنفسنا بكثرة السؤال عن كل ما يخفى عنا، وبالإلحاح الذي يضطر الطرف الآخر إلى الإفصاح عما يخفي، وغالبا ما يكون فيه ما يؤلم ويشق علينا تحمله، والأمثلة في ذلك أكثر من أن تحصى، ومن ثم فمن الحكمة أن نكف عن فضول القول والأسئلة المبالغ فيها، ولنتصرف في حدود ما نعلم، ويكفينا من المتاعب والمشقة في هذه الحياة ما تأتينا به الأيام وتوافينا به المواقف دون سؤال أو طلب، فلنشغل أنفسنا بما فيه الخير لنا ولنركز على ما ينفعنا، ولنحرص على العمل بما نعلم قبل أن نطلب مزيدا من العلم، فالعلم إن لم يعمل به صاحبه يكن حجة عليه وليس حجة له.