طالما شكّل الخفاش لغزاً محيّراً للعلماء والناس على حد سواء؛ فهو كائنٌ ينتمي إلى فصيلة الثدييات، ومع ذلك يمتلك أجنحة قادرة على الطيران. يحمل في جسده أعدادًا مهولة من الفيروسات والأوبئة، إلا أنه لا يُصاب بأيٍّ منها. يمتلك عيونًا لكنه يُشاع عنه أنه لا يرى، مما يطرح تساؤلًا مهمًا: إذا كان الخفاش كائنًا غير مبصر، فلماذا يمتلك عيونًا من الأساس؟ وهل يستخدمها على الإطلاق، أم أن دورهـا شكلي فقط؟
عند النظر في سجل التاريخ البيولوجي، نجد أن هناك نوعين فقط من الكائنات التي لا تنتمي إلى فصيلة الطيور لكنها تمكنت من الطيران باحتراف: الأول هو الديناصورات الطائرة التي انقرضت منذ ملايين السنين، والثاني هو الخفافيش، التي لا تزال تعيش بيننا حتى اليوم.
الخفافيش كائنات ثديية منتشرة في معظم بقاع الأرض؛ من المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية إلى الصحارى والمزارع والغابات، بل وحتى في المناطق الصناعية والسكنية. ويمكن القول إن القطبين الشمالي والجنوبي هما المكانان الوحيدان اللذان لا يسكنهما هذا الكائن. وعلى الرغم من ذلك، فالخفاش مخلوق معمر للغاية، يتمتع بقدرة كبيرة على التكيف مع البيئات المختلفة، وقدرته تلك تعود إلى عدة أسباب.
أول هذه الأسباب أن الخفاش كائن مزواج؛ إذ يتزاوج الذكر مع عدد كبير من الإناث. وعندما تحمل الإناث، تبدأ بالهجرة نحو مستوطنات دافئة تضم حوامل فقط. وما إن يحين وقت الولادة، تخرج من هذه المستوطنات أجيال جديدة من الخفافيش، يحمل كل فرد منها القدرة على إعادة هذه الدورة الحيوية، مما يضمن استمرار النوع. والمثير للدهشة أن العديد من أنواع الخفافيش يمكنها الطيران والبحث عن الغذاء في غضون 18 يومًا فقط من ولادتها!
أما السبب الثاني فهو نظامه الغذائي المتنوع بشكل فريد؛ فالخفاش لا يمانع في أكل الحشرات، أو الأسماك، أو الزواحف، أو البرمائيات، بل وحتى الطيور الصغيرة. كما يتغذى على الدم، الفاكهة، رحيق الأزهار، والنباتات. إنّه مزيج غذائي غريب لا نجده إلا عند الخفاش، وهذا ما يمنحه ميزة إضافية في البقاء والتأقلم.
ومن المزايا الأخرى أيضاً، أن عمره طويل نسبيًا؛ فمثلاً، يمكن للخفاش البني أن يعيش حتى 32 عامًا، مما يجعله من أكثر الثدييات المعمّرة على الإطلاق.
كيف يرى الخفاش ويطير بدقة في الظلام؟
نصل الآن إلى النقطة الأكثر إثارة: كيف يتمكن الخفاش من الطيران بهذه الدقة رغم الظلام الدامس؟ وهل هو فعلاً لا يرى؟
عندما تخرج الخفافيش من أوكارها ليلًا بحثًا عن الطعام، تبدأ بإصدار موجات صوتية ترددية من حنجرتها، تخرج عبر الفم أو الأنف. وعندما تصطدم هذه الموجات بأي جسم أمامها، ترتدّ إليها مرة أخرى، فتلتقطها الأذن الكبيرة، وتقوم بترجمتها إلى صورة ثلاثية الأبعاد توضح الاتجاه والمسافة والحجم بل وحتى سرعة حركة الكائن الموجود أمامها. هذا النظام يشبه كثيرًا جهاز السونار المستخدم في الغواصات، ولهذا يُقال إن الخفاش “يرى بأذنيه”.
ولكي ندرك مدى دقة هذا النظام، دعونا نأخذ مثالاً من حياة الخفافيش: عندما تخرج الأم من العش للصيد وتعود لاحقًا، تكون قادرة على تمييز صغيرها من بين مئات، بل آلاف، الصغار الآخرين، وذلك من خلال صوته ورائحته فقط. وهناك دراسات تشير إلى أن أنثى الخفاش يمكنها تحديد ابنها من بين أكثر من 3000 وليد متشابه، فقط عبر صوته!
واقرأ أيضًا ⇐ لماذا يختلف الناس بين النوم الخفيف والنوم الثقيل؟
لكن، هل الخفاش أعمى فعلًا؟
الاعتقاد السائد بأن الخفاش أعمى هو في الحقيقة مجرد خرافة. فالخفاش يمتلك عينين كبيرتين، ويستخدمهما بفعالية تامة. بل إن بعض الدراسات تشير إلى أن حدة بصره تفوق حدة بصر الإنسان بثلاثة أضعاف، بشرط أن يكون الإنسان سليم البصر.
إذن، لماذا يستخدم السونار إذًا؟ ببساطة، لأن الخفاش كائن ليلي، يعيش في بيئة مظلمة تفتقر إلى الإضاءة، ولذلك فإن الاعتماد على السونار يوفر له وسيلة أدق لتحديد مواقع الفرائس والعوائق. لكنه لا يتخلى عن عينيه إطلاقًا؛ فعند وجود إضاءة، سواء من ضوء الشمس أو القمر، يستخدم الخفاش بصره بشكل طبيعي تمامًا. فعلى سبيل المثال، يستفيد من ضوء القمر الكامل لتحديد موقع الفريسة.
وهناك تنوع في استخدام الرؤية بين أنواع الخفافيش؛ فمثلًا، خفاش الفاكهة المصري يمتلك بصرًا حادًا، ويعتمد عليه بنفس درجة اعتماده على السونار. بينما يُعرف عن الخفاش البني طويل الأذنين أنه يفضل استخدام بصره أكثر من السونار، مما يدل على أن عينيه ليستا عضوين ضامرين، بل أدوات أساسية يعتمد عليها.
هل الخفافيش تضر المحاصيل الزراعية؟
من المعلومات المغلوطة أيضًا أن الخفافيش تضر المحاصيل الزراعية. على العكس تمامًا، فالخفافيش تقوم بتلقيح الأشجار أثناء تغذيتها على الفاكهة، كما تساهم في نقل البذور إلى أماكن جديدة، عن طريق إخراجها مع الفضلات.
بل وذهب بعض الباحثين إلى تجربة عملية؛ إذ منعوا دخول الخفافيش إلى حقل لزراعة الذرة، وكانت النتيجة أن الحقل تضرر بشكل كبير بسبب انتشار الطفيليات التي تتغذى عليها الخفافيش. في المقابل، بقيت الحقول المجاورة التي تزورها الخفافيش سليمة وخالية من المشكلات.
وقد أصدر “مركز التنوع البيولوجي” إحصائية أفادت بأن الخفافيش توفر للعالم ما يقارب 3 مليارات دولار سنويًا، نتيجة تغذيتها اليومية على الحشرات الضارة، مما يحمي المحاصيل ويوفر تكلفة المبيدات.
هنا أيضًا سؤال هام ⇐ هل وصل أحد إلى باطن الأرض من قبل؟
الخفاش مصاص الدماء… هل هو فعلاً شرير؟
وأخيرًا، نصل إلى الخفاش “مصاص الدماء”، والذي يبدو للوهلة الأولى كأنه كائن متوحش لا يمكن الدفاع عنه. لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا؛ فهذا النوع من الخفافيش يحتاج إلى كمية ضئيلة جدًا من الدماء يوميًا، ولا يقتل فرائسه.
بل الأكثر من ذلك، أن لعابه يحتوي على إنزيم يعيق تجلط الدم، وقد أصبح هذا الإنزيم موضع دراسة علمية، حيث يحاول العلماء الاستفادة منه في تطوير أدوية مضادة لتجلط الدم. وبالتالي، فإن هذا الخفاش لا يهاجم لمجرد الهجوم، بل يقدم فائدة طبية غير متوقعة.
خلاصة القول
الخفاش ليس كائنًا أعمى كما يشاع، بل هو من الكائنات القليلة التي تمتلك وسيلتين فعالتين للرؤية: البصر الطبيعي، ونظام السونار الدقيق. كما أن له دورًا بيئيًا بالغ الأهمية في التلقيح، مكافحة الحشرات، وتوزيع البذور. وحتى الأنواع التي تُعتبر “مصاصة للدماء”، فإن لها فوائد علمية لا يُستهان بها. لهذا، ربما حان الوقت لإعادة النظر في تصوراتنا الخاطئة عن هذا الكائن الفريد من نوعه.