عندما نرغب في الوصول إلى مكانٍ ما على الأرض، عادةً لا نواجه صعوبة كبيرة، حتى وإن كان هذا المكان جديدًا علينا. فالطرق البرية واضحة، وتوجد لافتات وإشارات مرورية في كل مكان، وإذا ضللنا الطريق، فببساطة يمكننا أن نسأل أحد المارة. غير أن هذا الحال لا ينطبق على السماء، إذ لا توجد علامات أو لافتات تُرشد الطيار إلى وجهته، ولا يمكنه التوقف ليسأل طيارًا آخر عن الاتجاه الصحيح. ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: كيف يعرف الطيارون طريقهم في سماءٍ تبدو متشابهة من جميع الجهات؟
بداية الحكاية: من الطيران البصري إلى الأدوات البدائية
مع بداية القرن العشرين، وبعد سلسلة طويلة من المحاولات التي بدأت بعباس بن فرناس وبلغت ذروتها مع الأخوين رايت، نجح الإنسان أخيرًا في تطوير أول نموذج لطائرة قابلة للطيران في ديسمبر عام 1903. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الطائرات جزءًا لا يتجزأ من حياة البشر.
لكن في تلك البدايات، كانت الطائرات بدائية للغاية. ولهذا السبب، كان الطيارون يحلقون فقط في النهار، ويعتمدون كليًا على أعينهم لتحديد الاتجاهات، خاصة وأن الطائرات كانت تطير على ارتفاعات منخفضة، مما مكّنهم من رؤية المعالم الأرضية كالمباني والأنهار والبحيرات بوضوح، وبالتالي تحديد مسارهم بسهولة.
ومع تطور الطائرات وقدرتها على الطيران على ارتفاعات أعلى، بدأ الطيارون في استخدام أدوات مساعدة مثل المنظار أو مؤشر الانحراف، وهي أدوات تساعدهم على تحديد سرعة الرياح واتجاهها وتصحيح مسارهم بناءً على ما يشاهدونه من الأرض.
ظهور الحاجة لطرق جديدة مع التوسع الجغرافي
في ثلاثينيات القرن الماضي، اتسعت رقعة الملاحة الجوية، وبدأ الطيارون يحلقون فوق مناطق خالية من المعالم كالصحراء والجبال، مما فرض تحديات جديدة. وهنا لجأت شركات الطيران إلى حل مبتكر وغريب نوعًا ما، إذ قاموا بإنشاء أسهم خرسانية ضخمة مطلية باللون الأصفر على الأرض، ليتمكن الطيارون من رؤيتها بسهولة من السماء. وكانت هذه الأسهم تقودهم إلى أبراج مراقبة موزعة في مناطق مختلفة، وشكّلت شبكة إرشادية تربط بين شرق وغرب الولايات المتحدة. واللافت أن بعض هذه الأسهم لا تزال موجودة حتى اليوم ويمكن رؤيتها عبر خرائط جوجل.
لكن هذه الحلول جميعها كانت تعتمد بشكل كامل على الرؤية المباشرة، ما يجعلها قريبة من أسلوب القيادة على الطرق الأرضية، ولا تتناسب مع رحلات الطيران الليلية أو فوق المحيطات الشاسعة، حيث لا توجد معالم مرئية، ولا إمكانية للاعتماد على النظر.
من السماء إلى النجوم: الملاحة الفلكية
لهذا السبب، كان لا بد من تطوير وسائل ملاحة جديدة لا تعتمد على الرؤية. واحدة من هذه الوسائل كانت أداة السدس (Sextant)، وهي أداة على شكل نصف دائرة كان البحّارة يستخدمونها لتحديد مواقعهم نسبةً إلى النجوم، وخاصة النجم القطبي ليلًا، أو الشمس نهارًا.
في عام 1922، قام الطيار البرتغالي جاجو كوتينيو بتطوير هذه الأداة لتناسب الطيران، ما سمح للطيارين بتحديد مواقعهم وفقًا لخطوط الطول والعرض. كما استخدموا إلى جانبها تقنيات حسابية مثل التقدير الاستدلالي (Dead Reckoning)، التي تعتمد على سرعة الطائرة والزمن المقطوع لتقدير الموقع. غير أن هذه الطرق، رغم أهميتها، كانت معقدة وغير دقيقة بما يكفي.
دخول موجات الراديو: بداية العصر الحديث للملاحة الجوية
جاءت الخطوة الحاسمة في تطور الملاحة الجوية مع دخول موجات الراديو إلى هذا المجال. حيث ظهرت ما تُعرف بمحطات Adcock Range Stations، وهي أبراج أرضية ضخمة تبعث إشارات مشفّرة في أربعة اتجاهات مختلفة، يستطيع الطيار استقبالها على هيئة بث صوتي. ومن خلال تغيّر نمط البث، يتمكن من معرفة ما إذا كان على المسار الصحيح أم لا.
لكن هذا النظام عانى من مشكلة رئيسية، وهي أن الترددات المستخدمة كانت منخفضة، وبالتالي عرضة للتشويش. لهذا السبب، تم استبداله في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بنظام أحدث وأكثر كفاءة يُعرف باسم VOR، وهو اختصار لـ Very High Frequency Omnidirectional Range Station.
هذا النظام يعتمد على إرسال إشارتين من المحطة الأرضية: إحداهما ثابتة، والأخرى تدور بزاوية 360 درجة. ومن خلال الفارق الزمني بين الإشارتين، يمكن للطيار تحديد موقعه بدقة شديدة بالنسبة للمحطة، دون أن يخشى انقطاع الإشارة. ولهذا السبب، حاز نظام VOR على شعبية كبيرة، وظل معتمدًا لعقود، ولا تزال بعض الطائرات تستخدمه حتى اليوم كنظام احتياطي.
هل تعلَم أيضًا ⇐ كيف يرى الخفاش أثناء الطيران؟ وهل هو فعلاً كائن أعمى؟
الثورة الكبرى: الأقمار الصناعية ونظام GPS
المرحلة الأخيرة – والأكثر تطورًا – في تاريخ الملاحة الجوية، جاءت مع ظهور نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، والذي تم تطويره في سبعينيات القرن الماضي، لكنه لم يُستخدم في الطائرات المدنية إلا في منتصف التسعينيات، تحديدًا عام 1995.
وبدمج هذا النظام مع أنظمة تشغيل الطائرات، أصبح بالإمكان قيادة الطائرة بشكل آلي بالكامل. فالطيار لم يعد مضطرًا للتحكم اليدوي بالطائرة طوال الرحلة. في الواقع، قبل الإقلاع، يقوم شخص يُدعى المُرحّل الجوي (Flight Dispatcher)، وهو مسؤول موجود في مركز العمليات الأرضية، برسم خط سير الطائرة وتحديد الارتفاع والسرعة بناءً على البيانات المتاحة. يتم إدخال هذه البيانات في كمبيوتر الطائرة، وبمجرد بدء الرحلة، تقوم أنظمة القيادة الذاتية – أو ما يُعرف بـ الطيار الآلي (Auto Pilot) – بتنفيذ المهمة كاملة.
هل يقود الطيار الطائرة فعلاً؟
في الحقيقة، الطيار خلال معظم الرحلة لا “يقود” الطائرة بالمعنى الحرفي، بل يراقب عمل الطيار الآلي ويتابع البيانات للتأكد من أن كل شيء يسير على ما يُرام. ومع ذلك، لا غنى عن الطيار تمامًا، إذ عليه أن يكون مستعدًا للتدخل يدويًا في حالة الطوارئ أو تغيرات الطقس، مثل العواصف المفاجئة أو الأعطال الفنية.
كما أن مرحلتي الإقلاع والهبوط تتمان يدويًا بواسطة الطيار، وهو ما يُعد الاختبار الحقيقي لمهاراته، إذ يتنافس الطيارون على تنفيذ هبوط سلس يُرضي الركاب، دون اهتزازات أو صدمات.
بالمُناسبة ⇐ هل تعلم لماذا تلمع عيون القطط في الليل؟
خلاصة القول
السؤال الحقيقي لم يعد: “كيف يعرف الطيار الطريق في سماءٍ متشابهة؟“، بل: “متى يحتاج الطيار فعليًا إلى قيادة الطائرة بنفسه؟“
لقد تطورت تقنيات الملاحة الجوية بشكل مذهل، بحيث لم تعد تعتمد على النظر أو حتى على مهارات الطيار وحدها، بل أصبحت مهمة مشتركة بين الإنسان والتكنولوجيا المتقدمة، في رحلةٍ تبدأ من الأرض، وتحلّق فوق السحاب، وتنتهي بدقة متناهية عند الوصول إلى الوجهة.