كان النبي- صلى الله عليه وسلم- وكذلك أصحابه الكرام يستبشرون بشهر رمضان ويفرحون باستقباله، لعلمهم بعظيم فضله والكنوز التي تنطوي عليها أيامه وساعاته، ولم يكن استعدادهم لاستقبال شهر الصيام، ولا فرحتهم به مجرد شعارات تردد ولا كلمات تكتب ولا اشراق الوجوه فقط، بل وضعوا فرحتهم بالشهر الكريم وشوقهم إليه ورغبتهم الملحة في ادراك فضله ونعيمه موضع الترجمة العملية، فتحولت أمنياتهم ومشاعرهم الرائعة تجاه شهر رمضان إلى طقوس وعبادات ودعوات تشق السماوات وتصل إلى رب الرحمات، وكان لكل منهم طريقته في تهيئة نفسه وإعداد عزيمته وهمته لهذا الشهر المبارك.
هنا سنتعرف على طائفة من الطقوس أو القربات أو الطرق التي كان ينتظر الصحابة بها شهر رمضان ويستقبلون بها أيامه، لنتعلم منهم ونقتدي بهم ونسير على دروب الحق مثلهم، فنسأل الله أن ينفعنا بالتذكرة ويجعلنا وإيكم أعزاءي القراء ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
استقبال الصحابة لشهر رمضان
بلغ اهتمام الصحابة الكرام برمضان وتقديرهم لعظيم فضله مبلغًا لا ينافسهم فيه أحد، فالاهتمام لم ينحصر في استقبال الشهر فحسب، بل في انتظاره بلهفة والضراعة لله أن يبلغهم إياه بعافية، ولم يكن دعائهم عابرا أو لحظيًا، بل يقال أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر قبل رمضان، وحين يبلغهم رمضان يشتد الحاحهم في طلب التوفيق للطاعة والعون على العبادة من صيام وقيام وذكر، وحين تتحقق أمنيتهم تلك يشغلهم أمر قبول أعمالهم فيدعون الله عز جل في معظم أوقاتهم أن يرزقهم قبول العمل، ويخشون إحباطه، ويتحرون تحسينه واتقانه على أكمل وجه.
كان بعض الصحابة يبدأ استعداده الفعلي لرمضان مع دخول شعبان، فيحدد لنفسه وردًا قرآنيا ويعكف على قراءته، حتى يهيئ نفسه للتلاوة في شهر مضان، ويسعى لتزويدها، كما كانوا يكثرون من العطاء الصدقات والجود على الفقراء والمحتاجين، وكان مثلهم وقدوتهم في ذلك النبي –صل الله عليه سلم- الذي كان يجود على كل محتاج وكان يزيد جوده وفضله مع اقتراب رمضان ويبلغ قمته في رمضان، ومما دلنا على ذلك حديث أنس بن مالك –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبُّوا على المصاحف فقرأوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقويةً للضعيف والمسكين على صيام رمضان).
ومن استعدادهم أيضا أنهم يسئلون ويخططون لختم القرآن مرات ومرات ومن ذلك : :ما رواه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَمْ أَخْتِمُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ:« اخْتِمْهُ فِي شَهْرٍ ». قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ. قَالَ :« اخْتِمْهُ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ». قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ. قَالَ:« اخْتِمْهُ فِي عِشْرِينَ ». قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ. قَالَ:« اخْتِمْهُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ ». قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ. قَالَ:« اخْتِمْهُ فِي عَشْرٍ ». قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ. قَالَ:« اخْتِمْهُ فِي خَمْسٍ ». قُلْتُ : إِنِّي أُطِيقُ. قَالَ:« لاَ »، وفي هذا الحوار ما فيه من حرص عبد الله بين عمر –رضي الله عنه عن أبيه- على التزود من قراءة القرآن بأقصى ما في وسعه.
كما كان الصحابة يحرصن على قضاء ما علق بذمتهم من صوم رمضان الماضي، حتى يدخلون رمضان وزمتهم براء من أي دين.
وكان من مظاهر الاستعداد أن بعضهم يقلل من ساعات عمله أو يغلق متجره، ويتفرغ لتلاوة القرآن، بينما اتخذ الاستعداد لرمضان مظهرًا آخر عند سيدنا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه وأرضاه- إذ كان يطوف بالمساجد قبيل دخول رمضان فينيرها ويجمع الناس ويذكرهم بصلاة التراويح، حتى أن سيدنا على بن أبي طالب -رضي الله عنه- فرح بصنيعه ودعا له أن ينور الله له قبره كما نور بيوت الله.
وكان يستعد بعضهم بتوبة نصوح، وإقلاع عن كل ذنب، وتطهير للقلب ليستقبل نفحات رمضان ويتعرض لها دون أن يحول الاثم دون ذلك، أو يمنعها ترسب المعاصي على القلب من استشعار لذة القرب والطاعة لله عز وجل.
وختامًا: فقد كان استعداد الصحابة لشهر رمضان المبارك يعكس قناعة قوية وإيمانًا عميقًا بفضله ومنزلته وعظمة تلك الفرص التي يقدمها للبشرية كل عام، فيجب علينا أن نتعلم منهم ونقتدي بهم، ونعمق فهمنا لكرامة الشهر الكريم وخصوصيته، ولنحذر تجريد الشهر من جوهره أو استبدال قيمته الحقيقية بمظاهر الأكل والشرب اللبس أو تزيين الشوارع والطرقات أو غيره من مظاهر الاستعداد السطحية الجوفاء.