إن المدينة بالنسبة للإنسان كالمجتمع الصغير، يتطلب منه واجبات حتى يحق له العيش فيه، لابد أن يعمل الإنسان من أجل مدينته حتى يرتقي بها، ويعيش فيها سعيدًا مرتاحًا.
وكما قلت: المدينة هي مجتمع صغير، يعيش فيه مجموعة من الناس، عليهم واجبات تجاه بعضهم البعض، وواجبات تجاه مدينتهم؛ إذ لابد أن يتحلوا بالاحترام تجاه كل شيء في المدينة، وأن يتحلوا بالأخلاق الحميدة فيما بينهم.
وجدير بالذكر أن المسلمين بطريقة ما علمونا كيفية إقامة مدينة فاضلة يسودها الودّ والخير والرقي والتقدم، فيجب أن نحذو حذوهم، وأن يتكاتف سكان المدينة حتى يتطوروا منها ويعمها الرقي، وإذا سار المجتمع كله على نفس النهج أصبح الوطن حلية كبيرة من الرقي والتحضر والتقدم.
الفلاسفة والمدينة الفاضلة
لقد كان حلم الفلاسفة قديمًا أن يعيشوا في مدينة فاضلة يسودها الحكمة والرقي والتحضر، وأبرز ذلك ما جاء عن أفلاطون ومدينته الفاضلة، وقد حلم أفلاطون بإقامة مدينة فاضلة تقوم على عدة مبادئ منها: أن تكون المدينة خيالية تساهم في توفير السعادة للشخص الذي يسكن فيها، وان يكون سكان عددها قليل، حتى يتمكنوا التعرف على بعضهم به، وأن تكون الممتلكات في المدينة ملكية عامة لا تخص أحد بعينه، وأن تتكون المدينة من ثلاث طبقات: الأوصياء والمحاربين والمزارعين، وكلهم يعملون من أجل المدينة الفاضلة، وتتسم بالتعاون بين أفراد المدينة.
وإذا نظرنا في فلسفة أفلاطون لخلق مدينة فاضلة نرى أنه يرسم صورة مصغرة جميلة لما يجب أن يكون عليه المجتمع كله؛ إذ أن المدينة هي وحدة بناء المجتمع كله.
وظلت فكرة المدينة الفاضلة منتشرة حتى في الفلسفة الإسلامية القديمة؛ فقد قام العالم العربي المسلم (الفارابي) بتأليف كتاب حول المدينة الفاضلة موجودة منذ عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم- والله أعلم.
الرسول –صلى الله عليه وسلم- وبناء المدينة
حينما هاجر الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة (يثرب) أراد أن يجعلها مدينة فاضلة، فكان أول ما فعله هو الإخاء بين المسلمين والأنصار، حتى يسود الود فيما بينهم، وتتمازج قناعاتهم ومعيشتهم، وبدأ الرسول –صلى الله عليه وسلم- في إرساء القواعد لبناء المدينة المنورة، وكان أول ما بناه هو المسجد ليجتمع فيه مع الصحابة –رضي الله عنهم- ويكون ملجأهم للتخطيط في كل شيء.
ومن مركز المدينة التي بناها الرسول –صلى الله عليه وسلم- وطورها على مبادئ المحبة والإيخاء والود فيما بين الأنصار وأهل مكة، ازدادت قوة الدولة الإسلامية شيئًا فشيئًا حتى كادت أن تغزو العالم، وتصدر العلوم إلى الدول الغربية، وصارت لها إمبراطورية كبيرة متسعة الأطراف، الكل يخشاها، ويحسب لها ألف حسابًا.
لماذا علينا أن نطور مدينتنا؟
إن هذا السؤال يحملنا إلى تذكر الدوافع التي تجعلنا نعمل من أجل أن نطور مدينتنا وأن نحافظ عليها؛ فالمدينة هي بقعة الأرض التي نعيش عليها، وإذا كانت متطورة أصبحت حياتنا بعيدة عن الشقاء، وقريبة من الراحة.
إن المدينة المتطورة بما فيها من الخضرة والزرع والهواء النظيف المليء بالود والإيخاء تجعل حياة أفرادها أكثر صحة، وأشد نشاطًا لمواصلة أعمالهم، والعمل على تطوير المجتمع كله.
إن تطوير المدينة يجعل الحياة فعالة لا يشوبها الجرائم أو القضايا المشينة التي تحدث في المجتمعات النامية، لأن المدينة المتطورة تقوم في المقام الأول على توفير الأمن للأفراد، وأيضًا على حفاظ الأفراد على الأخلاق والحرص على بعضهم بعضًا.
تطوير المدينة الفاضلة يعود بالكثير من الفوائد على المستوى الداخلي والخارجي، فالمدينة الفاضلة على المستوى الخارجي تجعل المجتمعات الأخرى تنظر إليها بعين الإنبهار والتقليد، وتعدها مدينة قوية يسودها روح التكاتف والتعاون والأخلاق، ويتسم أفرادها بالقوة العلمية والقوة البدنية، وكل ذلك من أجل الحفاظ على المدينة التي بنوها وطوروا فيها.
وعلى المستوى الداخلي، فإن المدينة المتطورة تعود بالكثير من الفوائد التي ذكرتها آنفًا، غير الهدوء الذي يسود جوها والهواء النظيف والتطور الملحوظ النابع من العقول المتعلمة الواعية.
كيف تطور مدينتك؟
وبعد أن نظرنا في معنى المدينة المتطورة، ونظرنا في أهمية تطوير المدينة وما يعود على سكانها وأفرادها من الفوائد جراء تطويرها، نبدأ في وضع خطوات بسيطة لتطوير المدينة وجعلها مدينة فاضلة تساهم في بناء مجتمع كبير متطور ومتحضر.
لكي تتطور المدينة لابد أن يتسم أفرادها بعدد من الأخلاقيات التي لا يحيدون عنها، ويلتزمون بها فيما بينهم، وأمام الآخرين.
ومن هذه الأخلاقيات:
- احترام الغير: فالمدينة مليئة بالسكان المختلفين عن بعضهم البعض في كل شيء، قد يكون في الشكل، أو في اللون، أو في المعتقد، أو في وجهات النظر أو أي نوع من أنواع الاختلاف.
والإنسان لابد أن يضع في عين الاعتبار أن الاختلاف رحمة؛ إذ أن الاختلاف يتيح الفرصة لخلق المزيد من الإبداع والتطور والتقدم، والرقي، أذا اتسع الصدر لتقبل المزيد من الأفكار ووجهات النظر.
لذلك يجب “على الإنسان أن يتعلم كيفية احترام الغير، وأن يؤمن بحقوقه ولا يسلبه إياها، كما يريد أن يحافظ على حقوقه في المدينة ولا يتعدى عليها الآخرين.
واحترام الآخرين ينبع من مقدرة الإنسان على تقبل الآراء الأخرى، وأصحاب المعتقدات والآراء الأخرى، دون اللجوء إلى التعصب أو إبرام المكائد للوقوع بأصحاب الآراء المختلفة. واحترام الآخرين يأتي عن طريق التزام الشخص بأخلاق دينه، ويراعي ضميره، وأن يقتل في داخله التعصب وروح الاضطهاد، ويستبدلها بروح الإيخاء والود والتعاون.
- مراعاة الجار: ولكي تصبح بيئة المدينة صالحة لتقبل التطور، لابد أن يراعي الإنسان جاره، فلا يؤذيه أو يضطهده، أو لا ينظر إليه باهتمام، ويرى أنه لا حق له في العيش داخل المدينة، بل يجب على الإنسان أن يراعي جاره، وأن يحرص على مصلحته، ويعمل من أجل راحته، وأن يحرص على أن يسود بينهم الود والإيخاء والتكاتف والتكامل، فإذا تقبل الإنسان جاره، سادت السعادة والراحة فيما بينهم، وابتعدوا عن نوازع الخلافات، وأصبحت بيئة المدينة جاهزة للتطور.
- التعاون: بعد أن التزم الإنسان في المدينة باحترام الآخرين، وعرف كيفية احترام الجار، يجب أن يتعلم أخلاق التعاون، والتعاون يقوم على مبدأ التكاتف والاتفاق من أجل إقامة عمل واحد، على أن يكون لكل إنسان في المدينة عمل مكلف به يفعله على أسلوبه وعلى طريقته بما لا يضر بالآخرين، وفي النهاية تكون الصورة كاملة محققة للهدف المرجو من البداية.
والتعاون كما يقوم على الاتفاق على هدف واحد، فإنه يعني أيضًا عدم تدخل أحد الأفراد في عمل الآخر، حتى لا يسود الاختلاف الفارغ، ولا يسقط الهدف قبل أن يكتمل.
- في النهاية لم يبق أمام الإنسان بمعاونة الآخرين إلا أن يبدأ في تطوير أرض مدينته: بإقامة المشاريع الصالحة التي تعود بالنفع على السكان وبالنفع على صاحب المشروع، وبزراعة الأشجار وتجميل المرافق العامة، وإنشاء العديد من الأشياء التي تجعل المدينة أجمل وأفضل؛ كبناء مكتبة مجانية يرتادها سكان المدينة، وإنشاء المقاعد في الشوارع لكبار السن، ولمن يريدون التمتع بمنظر المدينة والتغني بها، والكثير من أشكال تعمير أرض المدينة، حتى يسودها التطور والرقي الحضاري.