كنا مائة شبل. والشبل هو الفتى الصغير، الذي لم يصبح رجلاً بعد، كما أنه أكبر من أن يكون مجرد طفل.
وللمصادفة، كان “شبل” هو لقب الواحد منا، في الإخوان المسلمين، وفي الكشافة أيضاً. أشبال الدعوة في الأولى، وأشبال البحرية في الثانية.. وهذا الشبل من ذاك الأسد.
ذلك أن الإخوان المسلمون تمكنوا، بعد ترتيب طويل، من السيطرة على نشاط الكشافة في واحد من مراكز شباب القاهرة، وقد كنا مائة شبل، نذهب إلى هناك أربعة أيام أسبوعياً، نلعب، ونعسكر، ونتعلم بعض الأنشطة الكشفية، ونحفظ القرآن، ونغني أناشيد الكشافة، ونبتكر المشاهد التمثيلية الطريفة خلال فقرات السمر.
وكان معنا شبل، اسمه كمال نصر، ثم لأن الاسم لا يلاءم شبل صغير، اقترح أحدنا أن ندمج الاسم الأول بالثاني، فيصبح اسمه “كمنص”، وقد كان.
في البداية، كان كمنص ينزعج بسبب اسمه الجديد، لكن سرعان ما اكتسب اسماً ثالثاً. وهنا تبدأ الحكاية..
كان كمنص بارعاً في التقاط الكرة بيديه بكافة الطرق الممكنة، مهارته هذه أهلته ليصبح حارس مرمى فريق الأشبال. دون تفكير، كان كمنص يذهب إلى المرمى فور تشكيل الفريق، وكان حظ زملاءه سعيداً، ذلك أن العادة جرت أن يتبادل الفريق كله مهمة حراسة المرمى واحد بعد آخر، لكن في تشكيل يضم كمنص، لن يتفوق أحد عليه في صد الكرات، كما أن كمنص نفسه كان يمارس مهمته برضا وسعادة نادرين، كان فخوراً كونه أفضل من يحرس المرمى. وكنا أيضاً.
بمرور الوقت، تمنى كمنص أن يصبح حارساً مشهوراً، ضمتنا الخيمة ليلة، وقبل النوم، حكى لنا عن حلمه بأن يصبح مثل “شمايكل”.
وبالنسبة لي، كان شمايكل شخص مجهول تماماً، عرفت من حكايات كمنص عنه، أنه أفضل حارس مرمى في العالم، وأنه يلعب في مانشيستر يونايتد (وفهمت بعد فترة أن هذا نادي رياضي) رغم أنه دنماركي الجنسية.
نقطة تحول
مرة، جاء كمنص سعيداً جداً، مع بداية فقرة كرة القدم دخل إلى مخزن يضم أدوات التخييم، وخرج وهو يرتدي ملابس رياضية كاملة، كتلك التي يرتديها اللاعبين المحترفين.. وقد اختار لنفسه بالطبع، زي حارس المرمى، بدلة سوداء عليها بعض الألوان، وقفازين، وجوارب طويلة تصل إلى ركبتيه، وبصعوبة قرأت الاسم المكتوب على خلفية قميصه الجديد “شمايكل”.
إذن، كمنص، سيصبح شمايكل، دون أن يتخلى عن اسمه الأول.. مع اكتشاف الانترنت، بدأ كمنص يجمع معلومات عن أسطورة حراس المرمى، وكان يحكي لنا في الخيمة ما تيسر من سيرة ابن الدنمارك البار، بيتر شمايكل. وكنا سعداء بأية حكايات تأتي من الإنترنت..
ثم..
جمعنا القائد ذات يوم، فيما بين صلاتي المغرب والعشاء. كنا قبل الصلاة قد صعدنا إلى أعلى البناية التي تضم المخزن، وجلسنا في دائرة، قرأنا بعض الآيات، ثم تلونا ورد الرابطة.. نزلنا للصلاة في المخزن، وجلسنا نسند ظهورنا إلى الجدران، كانت الأجواء إيمانية، وكان الغروب قبلها جميلاً، شعرنا جميعاً أننا – بلا شك – سندخل إلى الجنة معاً.
تحدث القائد، وقد كان عميلاً مزدوجاً في الحقيقة، هو قائد الكشافة من ناحية، ومسئول هذه الوحدة الإخوانية من جهة أخرى.. تحدث عن الأخلاق، عن كل الأخلاق الجيدة التي خلقها الله، طلب منا بهدوء أن نكون أخلاقيين طوال الوقت، لأن الأخلاق جيدة، وقد صدقناه.. ووعدناه بأن نفعل ما أراد.
بعد صلاة العشاء، أكلنا سوياً بعض السوداني، وقد حاولت أن ألعب مع كمنص، فمسكت حبة سوداني، وقررت أن ألقيها تجاهه لأرى قدرته على إمساكها.. ناديته.. “كمنص.. شمايكل”.. وصوبت تجاهه ورميت، وقد أمسكها ببراعة لازلت أحسده عليها.
هنا، اكتشفت أن القائد يراقب الحدث، لم يغضبه أني ألقيت على كمنص السوداني، ولا أن أجواء الإيمان تحولت إلى ساحة للعب، فقط سأل كمنص : “هل تحب اسم شمايكل؟”. ببراءة طفولية لم أعرفها عنه هز كمنص رأسه موافقاً.
تحدث الأخ القائد قليلاً، معلقاً على حب كمنص لشمايكل، حذرنا أولاً من استخدام أسماء ساخرة حين ننادي بعضنا، وذكر آية من القرآن تقول “ولا تنابزوا بالألقاب”، ثم قال حديثاً معناه، أن من أحب شخصاً سيحشر معه يوم القيامة، وبما أن شمايكل كافر دنماركي، فعلى كمنص أن يتوقف عن حبه وتسمية نفسه باسمه. عسى ألا يحشر معه في النار.
تأثر كمنص كثيراً، لعله شعر أن التزامه يقف أمام حلمه، أو أن حلمه غير أخلاقي، وربما يكون حرام.. لم يحدثني كمنص عن المسألة.. لكن ما لاحظته، وقد كانت هذه أيامي الأخيرة في مركز الشباب.. أن كمنص امتنع عن الحضور بزي شمايكل، لكنه احتفظ بالقفازين، حيث أنه لا أسماء مكتوبة عليهما..
لا أعرف نهاية لقصة كمنص، فقد انقطعت علاقتي به، كما انقطعت بكل الأشبال بعد مغادرتي مركز الشباب الذي لم يعد يلاءم طبيعتي الميالة إلى الخمول.
ما أعرفه أن كمنص لم يصبح شمايكل، وأنه لا يزال اسمه كمنص.. فحين نهانا القائد عن التنابذ، كان يأمرنا بالامتناع عن قول “شمايكل”، لكن “كمنص” بالنسبة له كانت الاسم الحقيقي لـ”كمال نصر”، حتى أنه كان يناديه كما نناديه.. كمنص.
بقلم: البراء أشرف
⇐ واقرأ أيضًا في المقترحات: