الصلاة والسلام على أكرم الخلق وخير الختام، سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه الكرام، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وإن حديثنا اليوم يدور في فلك كلمات شريفة وردت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (البِرُّ لا يَبْلَى، والإثمُ لا يُنْسَى، والدَّيَّانُ لا ينامُ، فافعل ما شِئْتَ، كما تَدِينُ تُدَانُ)، فسنتعرض لها بالشرح، ثم نقوم بإسقاط هذا الكلام على الواقع ونتبين بعض ما فيه من الفوائد.
كما تدين تدان
تلك الجملة جزء من الحديث سالف الذكر، والذي يلفت النظر إلى بعض السنن الكونية، فالبر لا يبلى، ولا يضيع أبدا مهما طال الزمان، أو انقضى الأجل فهو يظل رصيد لصاحبه وغرسه الطيب يأبى إلا أن يجني الإنسان ثماره ولو بعد حين، ونفس المنطق ينطبق على كل إثم، والاثم هو عكس البر، فهو أيضا باق في عنق صاحبه حتى يدفع ضريبته.
أما معنى (الديان لا ينام)، فهو معنى مجازي يقصد منه أن الله عز وجل لا يغفل عن خير يفعله الإنسان ولا شر يقترفه، كل شيء بحساب، (فافعل ما شئت فكما تدين تدان) أما تلك الجملة فهي بيت القصيد ومحور الحديث في هذا الموضوع.
فالجملة قصيرة المبنى عظيمة المعنى، تنطوي على تصريح وقيد في نفس الوقت، فالتصريح متضمن في (افعل ما شئت)، والقيد متضمن في(كما تدين تدان)، إذا أن للإنسان مطلق الحرية أن يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء، يرحم أو يقسو، يعدل أو يظلم، ينصف من نفسه أو يجور على غيره، فهو مخير في اختيار ما يحلو له، ولكن في الأمر قيد لا يجب إغفاله وحقيقة لا يصح تجاهلها، وهو أن كل ما يزرعه سيحصده يوما، وكل ما يصدر عنه سيرد إليه يوما ما، وكل ما يودعه في خزائن أعماله سوف يجد أثره بلا تغيير أو تبديل.وإليك اسقاطات من واقع السنة النبوية في قضايا حيوية.
قضية بر الولدين وعقوقهما
بر الوالدين أو عقوقهما من القضايا التي تجسد بوضوح معنى( كما تدين تدان)، وهنا تفسرها نصوص أخرى مرتبطة بالموضوع، وذات صلة به، فقد علمتنا الشريعة الإسلامية أن معظم الذنوب يؤجل الله لفاعلها العقاب في الآخرة إلا عقوق الوالدين فيعجل الله لصاحبه العقاب، ويعاقب بعقوق أبنائه، وتشهد لذلك عدد من القصص والوقائع التي يشرب فيها العاق لوالديه من نفس كأس العقوق.
قضية الزنا
من الجرائم المحرمة شرعا والتي ورد في تحريمها وتقبيحها عدة نصوص جريمة الزنا، ومما قل فيها: ( من زنى يزنى به، ولو بحوائط بيته)، وهنا كلام مجازي يوضح معنى (كما تدين تدان)، ويؤيد ذلك القصة الشهيرة (دقة بدقة، ولو زدت لزاد السقا)، وحاصل معنى هذا الكلام أن من يزني بمسلمة فيهتك عرضها وعرض أبيها وأخيها وزوجها إن كان لها زوج، فإن له عقوبة قاسية وجزء من تلك العقوبة أن يذوق من جنس عمله، فينتهك عرضه بمن يعير بهن، فهو كالدين، وهذا لا يتنافى مع جود عقوبة أخروية كبيرة جدا، وعد الله بها من يقع في هذه الفاحشة.
وفي هذا المعنى يقول الشافعي:
عفوا تعف نساؤكم في المحرم ….. وتجنبوا ما لا يليق بمسلم.
إن الزنا دين فإن أقرضته ….. كان الوفا من أهل بيتك فاعلم.
يا هاتكا حرم الرجال وقاطعا ….. سبل المودة عشت غير مكرم.
قضية تفريج الكروب وعون المسلم لأخيه
إن تفريج الكروب ومساعدة الآخرين ومد يد العون لهم من الأمور التي دعت إليها الشريعة وحثت عليها أيما حث، ومن المغريات الهامة في الحض على هذه الفضيلة أن الإنسان متى سخر طاقته لمعونة غيره، قيد الله من الخلق من يكون في عونه، ومن يقف بجانبه ويساعده، سواء كان ذلك من قريب أو بعيد بصورة مباشرة واضحة أو غير مباشرة، وتلك من المسلمات التي لا يختلف عليها، ومن سنن الله في الحياة الدنيا، فالجزاء غاليا ما يكون من جنس العمل، من يفعل خيرا يجزى به، ومن ييسر ييسر الله عليه ومن يعسر يبتلى بمن يعسر له أمره ويشق عليه.
وتلك دعوة صادقة لكل مسلم ومسلمة، ضعوا في خزائنكم ما ينفعكم، وقدموا لأنفسكم ما تريدون أن تلقوه من غيركم!! فكما تدين تدان!!