مقدمة الخطبة
الحمد لله، الحمد لله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره. تفرد بالجمال والكمال، وتنزه عن النظراء والأمثال.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص فيها موقنٍ بها.
وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله ﷻ، حتى يُقرر أن لا إله إلا الله. فأقام الدين، ونشر التوحيد وأوضح الشريعة حتى توفاه الله تعالى. فاللهم صل وسلم وزد وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى وأنوار الدجى، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الخطبة الأولى
أما بعد؛ فهذا نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام، لما حضرته الوفاة وكان قد قضى في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهو أطول تاريخ في الدعوة إلى الله ﷻ، قال وهو يوصي ابنه بخلاصة دعوته وجِماع رسالته، وهو يلفظ آخر أنفاس الحياة قال «يا بني يا بني آمرك بلا إله إلا الله، يا بني آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأراضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأراضين السبع كن حلقة مبهمةً قسمتهن لا إله إلا الله».
هكذا عباد الله، أوصى نوح عليه السلام ابنه في آخر الحياة، أوصاه بلا إله إلا الله، وبين له قدر لا إله إلا الله؛ فعجيب أمر هذه الكلمة عباد الله، لو وزنت بالسماوات والأرض، لرجحت بهن عند الله ﷻ، نعم، فلا إله إلا الله هي الوصية التي كان أنبياء الله يودعون بها الحياة، قال الله ﷻ ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.
لا إله إلا الله، هي التي أنزلت بها الكتب وبعثت بها الرسل، قال الله ﷻ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾، فلا إله إلا الله وصية كل الأنبياء لأقوامهم.
أجل أيها الناس، إن لا إله إلا الله، هي القضية الكبرى والمسألة العظمى، المتفق عليها في دعوات المرسلين، هي الكلمة التي قامت بها السماوات والأرض، وفِطرة التي فطر الناس عليها، هي الكلمة التي أسست عليها الملة ونُصبت لها القبلة، هي الكلمة التي أمر الله ﷻ بها جميع العباد، لا إله إلا الله، موقعها من الدين فوق ما وصفه الواصفون، ويعرفه العارفون.
كلمة جليلة ومفردة جميلة، ذات فضائل عظيمة وفواضل كريمة ومزايا جمة، لا يمكن لمخلوق من المخلوقات استقصاؤها أو حصرها.
لا إله إلا الله، لها من المكانة ما لا يخطر ببال. لا إله إلا الله، لها من المزايا ما لا يدور في خيال.
فلأجل لا إله إلا الله، لأجل هذه الكلمة -عباد الله- قامت الأرض والسماوات، وخُلقت لأجلها جميع المخلوقات، أرسل الله بها رسله وأنزل بها كُتبه وشرع بها شرائعه، من أجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين.. قام سوق الجنة والنار من أجل لا إله إلا الله، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب.
لا إله إلا الله، هي حق الله تعالى على جميع العباد، كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، عنها يُسأل الأولون والآخرون.
لا إله إلا الله، هذه الكلمة خير كلمة قالها الأنبياء جميعا، قال ﷺ «وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».
لا إله إلا الله، أعلى شُعب الإيمان، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال، قال الله ﷺ «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان».
لا إله إلا الله، من قالها خالصاً من قلبه كان من أسعَد الناس بشفاعة المصطفى ﷺ، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، قال: قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ في ذلك اليوم المهول، يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال النبي ﷺ «لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث.. يا أبا هريرة أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه».
لا إله إلا الله، من قالها عُصِم ماله ودمه، وحرم له بقتل أو سلب مال أو غير ذلك من الأذى عباد الله.
هذا فضل لا إله إلا الله.. هذا أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، حِب رسول الله ﷺ، يقول: بعثنا رسول الله ﷺ بسرية إلى الحرقات من جهينة، وهم بطن من بطون قبيلة جهينة، قال فصبحنا القوم فهزمناهم، قال ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم عدا فلحقناه، قال فلما غشيناه قال الرجل: لا إله إلا الله، فكَفّ عنه الأنصاري، قال أسامة: فطعنته برمحي حتى قتلته.
قال: فلما قدمنا المدينة، بلغ ذلك النبي ﷺ، فقال لي «يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟» فقلت: يا رسول الله إنما كان متعوذاً، يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السيف، قال يا أسامة «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله»، وفي رواية قال «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»، يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟
قال: فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
بل تعالوا عباد الله واسمعوا لهذا الحديث العجيب، في فضل لا إله إلا الله، هذا رجل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرةٍ فقال: أسلمت، أي تشهد وقال لا إله إلا الله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال له رسول الله ﷺ «لا، لأنه قال لا إله إلا الله»، قال له لا تقتله. فقال: يا رسول الله، إنه قطع إحدى يدي، وقال ذلك بعدما ثم قال ذلك بعدما قطعها، فقال له النبي ﷺ -واسمعوا عباد الله ماذا قال- قال «لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، أي هو مُصان الدم، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال» -أي أنك مهدور الدم-.. فلا إله إلا الله.
شأنها عجيب، شأنها عظيم، تنفعك في الدنيا وتُنجيك يوم الدين، هذا معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه وأرضاه، كان رديف النبي ﷺ على الرحل، فقال له النبي ﷺ، «يا معاذ بن جبل»، قال: قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال «يا معاذ»، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال «يا معاذ»، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. ثلاثاً..
قال «يا معاذ؛ ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صِدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار». قال معاذ: قلت يا رسول الله: أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال «إذاً يتكلوا».. أي: إذا أخبرتهم اتكلوا على ذلك.
فأخبر معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، قبل موته بهذا الحديث تأثُّماً.. فلا إله إلا الله.
أيُّ فضلٍ هذا للا إله إلا الله، لهذه الكلمة العجيبة! فاللهم على لا إله إلا الله، وتوفنا على هذه الكلمة، واجعلها آخر كلمةٍ نقولها في هذه الدنيا، إنك ولي ذلك والقادر عليه، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وهذه أيضًا ⇐ خطبة عن ذِكر «الحمد لله» فضله وأسراره وثمرته
الخطبة الثانية
الحمد لله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد.. فلا إله إلا الله، ما أعظم هذه الكلمة، في لفظها وفضلها ومدلولها ومعناها! وفي حديث البطاقة يقول المصطفى ﷺ -واسمعوا عباد الله لهذا الحديث- يقول بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام «إن الله ﷻ يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر»، سجلات.. مُلئت بالذنوب والخطيئات، سجلات ملئت بالمعاصي والسيئات، «ثم يقول الله ﷻ: يا عبدي، أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله ﷻ له: ألك عذر؟ ألك حسنة؟ فيبهت الرجل. فيقول: لا يا رب، فيقول ﷻ: بلى إن لك عندنا حسنةً واحدة، فلا ظلم اليوم عليك، لا ظلم اليوم عليك، إن لك عندنا حسنة واحدة.. فتُخرَج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله».. قالها يوماً من الأيام، في هذه الدنيا بعلمٍ وإخلاص ومحبة، قالها يوماً من الأيام في هذه الحياة، قالها بصدقٍ واتباعٍ وانقياد، فنفعته في ذلك اليوم.
«فيقول الله له: احضروه. فيقول العبد: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ ما هذه مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تظلم، لا ظلم اليوم. فتوضع السجلات في كفة، وتوضع البطاقة في كفة فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء».
فلا إله إلا الله، لها فضل عظيم، ودعا إليها المرسلون، هذا نبينا ﷺ دعا إلى هذه الكلمة، في مكة وفي دينه، نعم عباد الله، أي فضل لهذه الكلمة؟ أي فضل للا إله إلا الله؟
يقول سفيان بن عيينة: والله ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة، أعظم من أن عرفهم بلا إله إلا الله.
ولكن أيها الأحباب، بقي علينا أن نعلَم أن كلمة لا إله إلا الله، ليست اسماً لا معنى له أو قولاً لا حقيقة له، أو لفظاً لا مضمون له كما قد يظنه البعض. بل هي اسم لمعنى عظيم، وقول له معنى جليل، أجلُّ من أجلّ المعاني في هذه الدنيا، حاصله البراءة من كل ما يُعبد من دون الله ﷻ، والإقبال على الله وحده لا شريك له، طمعاً ورغبا، إنابة وتوكلاً.
نعم -أيها المسلمون- معنى لا إله إلا الله أنه لا معبود بحق إلا الله، معناها أن الذي يستحق العبادة هو الله وحده لا شريك له دون ما سواه، وكل معبود سواه فباطل.
قال الله ﷻ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾.
هذا نبينا ﷺ، طيلة ثلاثة عشرة سنة في مكة، يدعوهم إلى توحيد الله، يدعوهم إلى لا إله إلا الله، يدعوهم إلى ترك الشرك بالله، يدعوهم إلى ترك عبادة الأصنام، لأنه دينُ الله، فهذا الدين العظيم، دين الإسلام، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، أصله وأساسه شهادة أن لا إله إلا الله. فلا إسلام إلا بلا إله إلا الله، لا إسلام إلا بهذه الكلمة قولاً وعملاً وعقيدة.
فالمسلم يقول لا إله إلا الله بلسانه، ويُصدقها بقلبه وأركانه. يوحد الله، ويخصه بالعبادة ويتبرأ من عبادة ما سواه.
أجل؛ فصاحب لا إله إلا الله لا يتوسل إلا بالله، صاحب لا إله إلا الله لا يسأل إلا الله، صاحب لا إله إلا الله لا يدعو غير الله، صاحب لا إله إلا الله لا يستغيث إلا بالله، صاحب لا إله إلا الله لا يركع ولا يسجد إلا لله، صاحب لا إله إلا الله لا يحلف إلا بالله، صاحب لا إله إلا الله لا يتوكل إلا على الله، صاحب لا إله إلا الله لا يذبح إلا لله، صاحب لا إله إلا الله لا ينذر إلا لله، صاحب لا إله إلا الله لا يأتي ساحراً أو مشعوذاً ولا عرافاً أو كاهناً، صاحب لا إله إلا الله لا يتطير ولا يتشائم ولا يعلق تميمة أو حرزاً، صاحب لا إله إلا الله لا يصرف شيئاً من أنواع العبادة والخضوع والتذلل والخشوع إلا لله جل في علاه.
فلا إله إلا الله.. تُحذر العبد من رِق المخلوقين والتعلق بهم، من خوفهم، من رجائهم، من العمل معهم ولأجلهم، تُحررهم من ذلك وتعلقهم بالله الواحد الأحد، تعلقهم بالله الفرد الصمد جل في علاه.
هذا عباد الله، وصلوا وسلموا، على من أمركم الله ﷻ بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، اللهم صل وسلم وزد وبارك وأنعم على حبيبنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.