هُنا حديثُ طَيّب وكلمات عن الصبر والفرج. أيّها الأخيار، ومع آية من كتاب الله نتذكرها ونعيش في أفيائها ونتأمل أيها الأحباب الوقفات الإيمانية حولها. ونتحدث في هذا اللقاء عن الصبر والفرج.
وما من مسلم وما من إنسان دَبّ على هذه البسيطة إلا وقد أذاقته الليالي والأيام لأوائها، كم من واحد منا بكت ودمعت عينه وذابت كبده. البعض منا لو أراد أن يحصِر ويُعدِّد الأيام التي ما أصيب فيها بحزن ولا وصب ولا نصب ولا هم ولا مرض ولا غم لما استطاع أن يجمع خمسة أيام متجاورة.
هذه الدنيا طبعت على الأكدار، هذه الدنيا هي تمهيدُ لدار من دخلها -أي الجنة- فإنّ نداء الملائكة للصابرين فوق الأرض عند باب الجنة “وَالـمَلائِكَةُ يَدْخُـلُونَ عَلَـيْهم مِنْ كُلّ بـابٍ سَلامٌ عَلَـيْكُمْ بِـمَا صَبَرْتُـمْ”.
كلمات عن الصبر والفرج
الإيمان شطرُ منه شُكر، وشطرُ منه صبر.
وهذه الحياة إما يوم تتكدّرُ فيه معيشك، ولربما بكت فيه عينك، ولربما تفتت فيه كبدك، وتحتاج الى دواء الصبر. أو أنها نعمة حَلّت بساحتك فلابُد لك أن تشكر. فأنت بين الصبر وبين الشكر حتى تلقى الله -تعالى-. والسعيد منا من كان يفرح بإعطاء الله ويفرح بأخذ الله، فإنه لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع.
ولذلك عليه الصلاة والسلام من قلّب في حياته متدبرًا وفي سيرته متذكرًا ومن قرأ سيرة خير الورا عليه الصلاة والسلام يرى الاحزان تحوطها لكنه نعم العبد كان صابرًا، كان شاكرًا. يموت أبناؤه ولم يبقى في حياته من أبناؤه إلا فاطمة -رضي الله عنها-. يُقتل أصحابه، ويمثّل بجسد عمّه، يدافعه أهل مكة ويعادونه، يعذَّب أصحابه فيعيدهم الجنة.
كان الحبيب يُذكِّر أصحابه بقصور الجنة وأرائك الجنة ونخيل الجنة، يذكرهم نعيمها ودورها وحورها وخيامها.
إنه الصبر، ويكفيك وانت تقرأ قول الحق “وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ”. قال بعض العلماء والله لو لم يكن للصبر إلا أن عاقبته أن الله يحبك لكان مكرمة.
بعض الناس مسحور، بعض الناس عقيم، بعض الناس مريض ملّ الفراش منه، ملّ من العلاجات وملّ من السجن، ملّ من نكران الجميل ممن حوله، ملّ من ضلال الأبناء، تعب من الديون، تعب بدنه من الاسقام، تعب من رقية الرقاة ولا يرى أثرًا لها، نقول له صبرًا، فإنما هي جسر تتجاوزه.. وإلى جنات النعيم.
الصبر إكسير الحياة، ومن لا صبر له، لا إيمان له، ويزداد البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة.
النبي محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يهاجر من هذه الأرض وهي أحب البلاد إليه، ويصبر ويعود إليها ويصبر.
قصة بين الموت والفراق ثم الصبر والفرج
يحكي الشيخ سعد العتيق، ويقول: رجلا خرج أبناؤه -له من الأبناء أحد عشر ومن الزوجات زوجتين- في سيارة واحدة، يقود بهم ابنه الأكبر، وهو خرج في سيارته منفردًا، لحقت به الاسرة لأنهم قد تم دعوتهم إلى وليمة عرس.
وعندما توجهت الأسرة كامله، غلّقوا أبوابهم، وبينما هم في الطريق فإذا به أمام سيارة نقل كبيرة فتدخل الأسرة تحت سيارة النقل فلا يخرج منها أحد ويموت له أحد عشر ابن وزوجتين.
تخيّل، 13 نفس، انقطع كل أثره وما بقى من ذريته. البيت الذي خرجوا منه ما عاد منهم من أحد.
أتاه الخبر بالهاتف وكان واقفًا، وقيل له أحسن الله عزاءك في كل ذريتك. كان واقفًا فجلس، وقال الحمد لله، اللهم آجرني في مصيبتي، وأخلف لي خير. ثم التفت إلى أبناء عمه وقال لا أستطيع أن أصلي عليهم ولا أستطيع أن أرى ثلاثة عشر قبر بين يدي، لكني راضِ بما وهبني الله بما أعطاني الله، هو وهبني وابتلاني وسوف أذهب الى بيته العتيق.
وركب سيارة أجرة، وقال لا تتبعوني، ذهب إلى مكة، للبيت العتيق، تعلق بأستار البيت، وهناك رفع العين الدامعة والكبد قد ذاب والقلب قد تفجر فيه الاحزان، لكنه تماسك وانفجرت دموعه، وارتفع دعاؤه: يا رب أخذتهم لتسمع ما أقول، لك الحمد على ما أخذت، ولك الحمد على ما أبقيت، اللهم كما ربطت على قلب يوسف وربط على قلب أيوب فاربط على قلبي، يا رب اعوذ بك ان يسلب الشيطان مني رحيق الإيمان، اللهم لك الحمد على كل حال.
جاور الرجل البيت العتيق شهرًا يشرب من زمزم، وكلما نزلت دمعت عينه تذكر الزوجات، تذكر الصغار، تذكر أحد بناته متزوجة وكان في بطنها حمل، كل الأسرة رحلت.
عاد بعد شهر الى البيت ليتصدق باللعب ويتصدق بالثياب، وها هو من جديد بعد ذلك يتزوج وهو له ستة من الأبناء بعد رحيل اسره كاملة. إنهُ الصبر والفرج.
الصبر على الابتلاء
الصبر مفتاح من مفاتيح جنات النعيم، الصبر هو نداء الملائكة كلما دخلوا على أهل الجنة “والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم”. ولذلك، كلما ازداد الإيمان ازداد البلاء وارتفع الصبر عند المؤمن.
مرّ الحبيب صلى الله عليه وسلم على عجوز تبكي ابنها، فقال لها يا أمَة الله، لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل يوم هو في شأن، له ما اعطى، تبكين على موهبته؟ ولكن يجب أن يكون القلب مطمئنا على أخذه، فإن العبد عند الاخذ والإعطاء، عبادته وحده “الحمد لله”.
الصبر هو حبس النفس عن الجزع والسخط؛ ولذلك قصور بالجنة تسمى “قصور الحمد” لمن رضي يوم أن أُخذ منه، وكان قد شكر يوم أن وُهِب.
قال –صلى الله عليه وسلم– يا امرأة لله ما أخذ، قالت اتركني ما أصبت بمصيبتي -ما عرفته صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروها أنّ ذاك هو رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ذهبت خلفه تسعى، يا رسول الله ما عرفتك، ما علمت أنك أنت، امتلأت عيوني دمعًا وقلبي حزنًا. قال: ارجعي، إنما الصبر عند الصدمة الأولى.
قصة جميلة ومؤثرة عن الصبر والفرج والبلاء
اسمع قصه جميله فيها دواء وفيها عبرة، وتعرف منها أنّه مع كل أعمالك الصالحة من صلوات ودعاء وحج وعمرة ودعاء وتبتل وبكاء وقيام ليل، إن كنت صادقا في جمع الإيمان وكنت ترضى على الرحمن وكنت تعرفه سبحانه في الرخاء فإنه يعرفك في الشدة.
ولذلك اسمع من عيون القصص في الرضا بالقضاء ما يرويه ابن الجوزي في حكاياته، قال الأصمعي خرجت أنا وصديق لي الى البادية فضللنا الطريق، فإذا نحن في خيمة على يمين الطريق فقصدنا نحوها. فسلمنا، فإذا بعجوز ترد السلام، ثم قالت من أنتم؟ قالوا قوم ضللنا الطريق وأنسنا بكم وقوم جياع، نريد الطعام.
فقالت ولوا وجوهكم حتى أقضي من حقكم ما أنتم له، فعلنا. – أي تبدأ تصنع طعامًا-.
قال وجلسنا على فراش ألقته لنا، وإذا ببعير مقبل من بعيد عليه راكب. وإذا بها تقول “أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ولدي، وأما راكبه فليس بولدي”.
ثم جاء الراكب وقال يا أم عقيل السلام عليكِ أعظم الله اجرك في عقيل. فقالت: ويحك أوَقّد مات؟ قال: نعم. قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر. فقالت: انزل. ودفعت له كبشًا، ونحن مدهشون.
كيف تضيّف ضيوفها وقد مات فلذة كبدها. وهنا عبادة إكرام الضيف. ومع ذلك ما أشغلها الحزن عن إكرامهم.
فذبح الشاة وأصلحها ثم قرّب إلينا الطعام. فجعلنا نتعجب من صبرها.
فلما فرغنا، قالت: هل فيكم من أحدِ يُحسِن من كتاب الله شيء؟ قلنا: نعم. قالت اقرأ عليّ آيات لعلّي أن أتعزّى بها عن ابني. فقرأ من قول -الحق- “وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون”.
قالت (وكأنها أول مرّة تسمعها): آلله إنها لفي كتاب الله؟ أسألك بالله هذا الكلام كلامه الله؟ قلت: والله إنها لفي كِتاب الله. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، صبرُ جميل وعند الله أحتسب عقيلا. اللهم إني قد فعلتُ ما أمرتني به فأنجز لي ما وعدتني.
ولو بقي أحدُ لبقي محمد -صلى الله عليه وسلم- لأمته ما اجملها هذا العزاء.
أبيات شعر عن الصبر
بقم: عمر محمد صالح أبو البشر
أيا من تعاني من الأهوال
وتذلك أحياناً قلة الأموال
أوقف البكاء واقرأ هذا المقال
أعلم أنك تعاني تقلبات الأحوال
وقد تبكيك الأفعال والأقوال
أعلم جيداً ما تمر به من أحوال
وقد تضيق بك السبل و الحال
ولديك أكوام هموم كالجبال
الحياة قد تقيدك يوما بالحبال
وتكون مجبور على القتال
ولا تجد الفرص لتحقق الآمال
إن لم تنتهج نهج الترحال
فرغم المعاناة وصعوبة الحال
هناك أمل أيا من تعاني الأثقال
أحمد الله دوماً وأكثر السؤال
وربي سيصلح الحال لا محال
اطمئن وستتغير كل الأحوال
استغل ضعفك قوة لتقهر الجبال
والصبر سلاح لتربح كل قتال
قوي ايمانك لتقهر أثقل الأحمال
بالعزيمة القوية يزول المحال
حارب الإحباط بالدعاء والابتهال
كن على يقين، الفجر آت وإن طال
والفرج قريب وستفتح كل الاقفال
وتزول عنك كل الاحمال لا محال
فكثرة سؤالك تفك كل الأغلال
أيا مهموم اسمعني بلا استعجال
ستفرح حتماً إن مدت الآجال
وتنتظرك غدا جنه العزيز المتعال
وإلى يوم السؤال، هذا خير مثال
يجعلك تصمد صمود الجبال
ولا تنسى أن المعاناة تصنع الأبطال
فلا تفسح للشك داخلك مجال
حاول وأفشل وستنجح لا محال