الفلاح قصة تنطوي على عدة معاني، لسنا هنا لمجرّد قصيدة عن الفلاح في كل العصور، نعرف أنّ حياته تحمل الخير للدنيا بأسرها، وتدفع عن الناس وجع الحرمان وتعب الفاقة والفقر والاحتياج، فالفلاح هو الجندي الذي جعل سلاحه في الحياة، استنبات الأرض نفسها، وإخراج كنوزها من باطنها إلى ظهرها، لينعم الناس بخضرتها وخيرها، ومع ذلك فالفلاح يضرب أروع مثل للمعاناة وشظف العيش والاحتياج المادي، يكد ويتعب ويخرج للناس أطيب الثمر وقد لا يناله من عمله أي رفاهية أو ثراء، وهذا لعمري من أسوأ الأشياء، بل الأسوأ منه أن ينظر المجتمع بمختلف فئاته للفلاح نظرةً دونيةً، يعوزها التقدير الحقيقي الذي يستحقه، وتخلو من توجيه الشكر والثناء الذي يليق بدوره وفضله.
وهنا سوف نهدي بعض أبيات إلى الفلاح المصري، مقدرين له دوره وتعبه وفضله على المجتمع كله، ذلك الفضل الذي لا تكاد الحياة تستقيم بدونه أبدًا، ونشكر الأقلام التي أبدعتها، والعقول التي سلطت الضوء على دوره ومعاناته القديمة، التي يمتد عمرها إلى آلاف السنين، ويسير جنبًا إلى جنب مع عمر الظلم ونكران الجميل.
من أروع ما قيل في الفلاح
سلام لمن يمنحنا أسباب الحياة
عجبًا لعازف، على وتر الجفاف
لحن الخضرة والحياة
من يصنع المعجزات
ومن يحتكر سر الميلاد والإنبات
كيف يكتسي بهذه الظلمة
كيف انحناء الظهر.. بعد الشموخ؟
وكيف يضنيه الحرمان؟
هل هو النكران؟
هل هو السهو المقصود؟
هل هو سوء توزيع الحقوق؟
لا ندري، ولا نريد
فأخي فلاح، وأبي فلاح، وابني هناك
يراود الأرض عن نفسها
لتلد أملًا جديدًا
يحايل الجمود ليستحيل لحنًا سعيدًا
ينتقي خير البذور
لكي يصير الطرح أحلى وأغلى،
فيشبع الفقراء
ويرتع الأغنياء..
سلام على جند مرابط بين حر الشمس وغضبها
وبين قسوة الأرض، وعنفوانها
..سلام لأيدي
يعلوها الشقاء.. ويكسوها العرق
سلامٌ على الفلاح
سلامٌ على المجاهد..
في قلب الصباح
وحين يقتحم الفأس قلب الموت
يمنحه مبررا للحياة..
وحين تمس كفيه التراب
تبعث فيها الأمل
وترويها فتطرح فرحا فيها
وتنبت ثمرًا
وتشهد ميلاد الحياة
فسلامٌ لمن يمنحنا أسباب الحياة
أنا الفلاح
أنا الفلاح، وهي أرضي
أنا الفلاح
يضنيني ذهاب العمر، والقوة
ويضنيني ثقل أحمالي
ويشقيني غياب الشمس
وانقطاع الماء
وآفة تأكل أحلامي
ويزعجني بوار الأرض!
أنا أنقب في بطون الأرض
عن رزقي..
ورزق الناس
وأدواتي كدي ومعولي والفاس
وجائزتي في نهاية التعب
صفار القمح كالذهب
وخضرة الحقل
وثمر طيب أجنيه
وأهديه لأبنائي وللأهل
أنا الفلاح..
لا أدري.. لماذا يبخسونني ثمن عمري
ولا أدري شعارات الغنى
ولا استحي من الفقر..
انا الأمل الذي يحدوه ضوء الشمس، والماء
وينعش فرحتي الخضر
يسعدني ابتسام الثغر
والشكر
.. هي أرضي
تبارك كل ما أفعل
وتشكرني
وتمنحني أحلى مستقبل
ولا تعذر!!
إذا قصرت لا تعذر
وقد تغدر
وتحرمني ثمار الجهد أحيانًا
وتخذلني
ولا تعطيني ما أرجو
لكنها الأوفى من الدنيا وما فيها
برغم خسارة بعض ما فيها
هي الأوفى من الخلان والأهل
هي غدي
هي الأمل!!
وإذا كنا بصدد الحديث عن الفلاح، وبصدد البحث عن كلمات تشدوا بفضله العظيم على الأوطان، فلا يمكن أن يمضي الحديث دن أن نذكر قبسًا من أروع ما قيل عن الفلاح ومكانته، ومن أروع ما وصف معاناته وما يلقاه من مشقة في الدور الذي اختار أن يلعبه أو فُرِض عليه أن يلعبه، حيث يقول الشاعر القدير أحمد شوقي بين ما يقوله عن الفلاح:
يا غارس الشجر المؤمل نفعه ……… وعد فإن ثماره الأفراح
يا واهب الخير الجديل لشعبه ……. أكذا يجازى بالعقاب سماح
أفنت حقولك آفة أرضية ……… عانت بها وشعارها الاصلاح
طير السعادة طار عنك محدقًا …….. وعلى ولائك رف منه جناح
قد اقسم البؤس الذى بك نازل ……… أن لا تمر بدارك الافراح
تقضى حياتك بالعناء ولم تكن ……. في غير أيام السقام تراح
يا ريف إن كتاب بؤسك مشكل ……. يعيا بحل رموزه الشراح
يا ريف ما لك شرب أهلك آجن ……….. رتق وشرب ولاة أمرك راح
وعلى لسان الفلاح الذي يحكي علاقته بالأرض وكيف أنها قوية وقديمة قدم التاريخ، وعن معاناته التي تبدأ من رمي البذرة وتستمر حتى يشهد جني الثمار، وعن سعادته وفخره بهذا الحصاد، وعن عزائه الذي يجده مع تلك النهاية المكللة بالنجاح يقول أحدهم:
أنـا الــفـلّاحُ فـي أرْضِــــي أراعِـيـها كَـمـا عِـــرضي
وأحْــرُثُــهـا وأزْرَعُـــهــا أُغَــذِّيـها صَــدَى نَــبْـضي
وَتَـشْـهَـدُ سُـنْـبُلاتُ الـقَـمْحِ وَالــمِـنْجَــلْ، مَــدَى كَـــدي
وَأغْـرِسُ شَـتْـلةَ الـزيْـتونِ تَـرْضَـعُ مِـنْ عَـلى زِنْـــدِي
أقَــبِّــلُـهـا وَأحْــضُــنُـهـا كَـطِـفْــلٍ مــا بدا رُشْــدي
تَــتــوقُ الأرْضُ لِلــفَــلّاحِ أرْعــاهــا كَـمـا فَـــرضـي
تَـجودُ عَـلَـيَّ بِـالْـخَـيْـراتِ تُــكْــرِمُــني عَـلـى جُـهْـدي
أُباهِي في اخْضِرارِ الزَّرْع أرْويـهــا نَــدى شَــهْــدي
وأخيرًا: لا يسعنا إلا أن نوجه للفلاح ولكل من امتهن الزراعة وكان سببًا من أسباب الاكتفاء والأمان، كلمة شكر وتقدير وعرفان، فهؤلاء هم أناس اختارهم الله لإحياء الأرض وإعمارها ونشر السعادة والخضرة في ربوعها، فبذلوا في ذلك أعمارهم وطاقاتهم فلا أقل من كلمة تقدير وإجلال!