يوسف طفل ذكي في العاشرة من عمره، يحب أخته الصغيرة رحمة، ويحنو عليها، ويحاول أن يحقق لها كل ما تطلبه منه، فقد علمه أبوه أن الكبير هو من يرعى الصغير، ويلبي طلباته.
كانت والدة يوسف ورحمة دائماً متعبة تذهب إلى الطبيبة كثيرًا، منذ شهور وهي حامل، جاء أخوهم الجديد “طارق” وهو لا يكف عن الصراخ ليلا أو نهارًا، ومن يوم أن جاءت الأم من المستشفى وهي تحمل ولدها الرضيع “طارق”، ولا تسأل عن يوسف ولا رحمة، ولا تأخذهما في أحضانها، ولا تسأل ماذا أنجزا في المدرسة.
تقول رحمة: أمي لم تعد تحبنا، ولا تهتم بنا.
يسمع الأب حديث ابنته رحمة، فينادي الأب ولديه، ويقول لهما: أخوكما “طارق” صغير وضعيف، يحتاج إلى أمه في كل شيء، فهي لا تستطيع أن تتركه وحده ولو لبعض الوقت، وبمجرد أن يكبر قليلا ويستطيع الاعتماد على نفسه في بعض الأشياء، ستعود أمكما كما كانت.
يقول يوسف: هي لم تعد تحبنا، لقد أخذ طارق كل حبها.
يقول الأب: تلك غيرة تأكل كل الأفعال الطيبة، إن الغيرة تعمي البصيرة يا ولدي، ولا تجعلنا نرى الأشياء على حقيقتها.
تقول رحمة: هل تقصد أن أمنا تحبنا مثل السابق، أي قبل أن يأتي طارق؟ يقول الأب بالتأكيد، وأنا كذلك، هل تشعران بفرق في معاملتي لكما؟ يرتمي يوسف ورحمة في حضن أبيهما، وهما يؤكدان أن شعوره وتصرفاته معهما مثل السابق تماما.
يقول الأب: وكذلك أمكما، ولكن طارق يحتاج إليها كثيراً، وهي تدرك ذلك.
ويبادرهما بقوله: هل تعرفان قصة النبي يوسف (عليه السلام) الذي تَسَمَّيْت يا يوسف على اسمه؟ قال يوسف: نحب أن نسمع قصته منك يا والدي لنفهم المغزى منها.
يحكي الأب… يصحو يوسف (عليه السلام) من نومه، ويجري سريعًا يبحث عن أبيه نبي الله يعقوب (عليه السلام)، كان يوسف خائفًا من تلك الرؤيا التي رآها في منامه، وسببت له الفزع.
وجد يوسف (عليه السلام) أباه، كان يصلي، ولما فرغ من صلاته التفت إلى يوسف الذي قال له: رأيت رؤيا في منامي أمس هل أقصها عليك؟ يقول يعقوب (عليه السلام): هل تحسها خيرا يا ولدي؟ يقول يوسف (عليه السلام): هي خير، ولكني لا أفهمها، قال الله تعالى عن تلك الرؤيا: ﴿إذ قال يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أبت إني رأيتُ أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين﴾.
تخوف يعقوب (عليه السلام) من الرؤيا، ولكنه أحس أن ولده سيصبح له شأن عظيم، لم يجتهد في تأويل الرؤيا، وأخبر ولده أن لا يقص الرؤيا على إخوته كي لا يشعروا أنه مفضل عليهم، وهو الطفل الصغير، قال تعالى: ﴿قال يابني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا إن الشيطان للإنسان عدُو مُبِينٌ﴾.
كان إخوة يوسف (عليه السلام) رجالا أشداء، يتعجبون كيف يقضي أبوهم وقته مع يوسف (عليه السلام) يعلمه من علمه، ويستمع إليه؟ بينما هم يعرفون الكثير، ولديهم خبراتهم التي اكتسبوها من التعامل مع الآخرين وخروجهم للتجارة، والبيع والشراء، ومع ذلك لا يلتفت إليهم.
زاد اهتمام يعقوب (عليه السلام) بولده يوسف (عليه السلام)، وأحب أن ينقل إليه علمه، وكلما رأى إخوته من أبيهم ذلك؛ تملكتهم الغيرة من أخيهم، حتى طلبوا من أبيهم أن يأخذوا يوسف (عليه السلام) معهم في رحلتهم للصيد والنزهة.
عندها شعر يعقوب (عليه السلام) بالخوف من تلك الرحلة فقرر رفض طلبهم، لكن بعد إلحاحهم ووعودهم بأنهم سيحافظون على أخيهم وافق يعقوب (عليه السلام)، وخرجوا جميعًا في طريقهم، كان يوسف (عليه السلام) يسأل طوال الطريق عن أسماء الحيوانات التي يراها تمر بجانبهم، وكان يرى بعضها لأول مرة، وتبارى أحد إخوته ليعدد له أسماء الصحراء مظهرا براعته، فقال: البيداء – البرية – البادية – القفر – المفازة – الفلاة، أعجب يوسف (عليه السلام) بالأسماء والتفت إلى إخوته فوجدهم ينظرون إليه بحنق وغيظ، فأحس بالخوف.
وقرر الإخوة في طريق العودة التخلص من يوسف (عليه السلام)، كانوا يعرفون بئرا في طريقهم يلجأ إليه المارة عند العطش، فربطوا يوسف وألقوه في البئر للتخلص منه، لكي يصبحوا هم المقربين من أبيهم، هذا ظنهم.
سقط يوسف (عليه السلام) في الماء فغمره، وحاول النجاة فصعد إلى صخرة في وسط البئر، فقام فوقها خائفًا، فأوحى الله تعالى إليه وهو في هذه الحالة من الضيق تطييبا لقلبه وتثبيتا له، بأن لك من ذلك فرجًا ومخرجا حسنًا، وسينصرك الله تعالى عليهم، ويعليك ويرفع درجتك، وستخبرهم يوما ما بما فعلوه معك، قال تعالى: ﴿فلما ذهبوا بِهِ وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعُرُونَ﴾.
تذكر إخوة يوسف (عليه السلام) أنهم وعدوا أباهم أن يرجعوا بأخيهم سالماً، فاختلقوا حكاية كاذبة تكون لهم عند أبيهم عذرًا، وإمعانا في جعل حكايتهم حقيقية ذبحوا ذبيحة، ولوثوا بدمائها قميص يوسف (عليه السلام) الذي خلعوه عنه قبل أن يلقوه في البئر، ومضوا في طريق العودة إلى الديار.
وبمجرد أن وصلوا استقبلهم نبي الله يعقوب (عليه السلام) سائلا عن يوسف (عليه السلام)، فما كان منهم إلا أن قصوا عليه قصتهم الكاذبة، واستشهدوا بقميص يوسف (عليه السلام) الملطخ بالدماء، وقالوا: إن الذئب أكله حين تركوه وحيدًا يحرس أغراضهم، وذهبوا يتسابقون في الجري فيما بينهم قال تعالى: ﴿قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يُوسُف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بِمُؤْمِنٍ لنا ولو كنا صادقين﴾.
لم يصدقهم يعقوب (عليه السلام)، وعرف أنهم احتالوا ليبعدوا عنه يوسف (عليه السلام) غيرة من محبته له، وظل يعقوب (السلام) يبكي بكاءً شديدًا حتى أصبح لا يرى بعينيه من شدة الحزن على فراق يوسف (عليه السلام).
أما إخوة يوسف (عليه السلام) فقد استقر في ضميرهم أنهم لم يفعلوا شيئًا سيئًا مع يوسف، بل تركوه في البئر، وسيخرج مرة أخرى، ويعيش لكن بعيدًا عن أبيهم الذي يعتقدون أنه يفضله عليهم.
وهو ما حدث بالفعل ليوسف (السلام)، حيث جاءت قافلة تجارية، فأرسلوا من يجلب لهم الماء، فأدلى دلوه في البئر، فتعلق يوسف (عليه السلام) بالدلو، وخرج من البئر، وحينما رأوه قالوا: هذا غلام جميل، وحملوه معهم إلى مصر، حيث كانوا متجهين إلى هناك، وقرروا أن يعرضوه على عزيز مصر، فربما يرغب في شراء يوسف (عليه السلام) ليعمل في قصره.
ولكن بمجرد أن رآه الحاكم أحبه، وقال لزوجته سنتخذه ولدًا لنا، وبالفعل كبر يوسف (عليه السلام) في قصر الحاكم وتعلم أشياء كثيرة، قال تعالى: ﴿وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا﴾.
ثم رأى الملك رؤيا ولم يعرف لها تفسيرًا، فبعث في كل الأقاليم المصرية يطلب من يعرف تفسيرًا لرؤياه، وكلما دخل رجل من أهل العلم وقص عليه الملك الرؤيا تعجب، ولم يجد لها تفسيرا، قال تعالى: ﴿وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلاتٍ خُضْرٍ وأُخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إِن كُنتُم لِلرؤيا تعبرون﴾.
وسمع يوسف (عليه السلام) بالرؤيا، وقد علمه الله تعالى تأويل الأحاديث، فقام بتفسيرها لعزيز مصر، فقال له: تزرعون سبع سنين، فما حصدتموه فاحفظوه وخزنوه؛ لأن تلك السنوات السبع سيأتي بعدها سبع سنوات شداد تعانون فيها من الشح والجفاف، فتأكل تلك السنوات ما خزنتم لها في السنوات السابقة إلا قليلا، ثم يأتي بعد تلك السنوات عام من الرخاء تتمتعون فيه.
قال الملك: سأجعلك يا يوسف أمينا على مخازن الغلال، ووزيرًا يطيع الناس أوامره حتى تمر تلك الأزمة علينا بسلام، وهكذا أصبح يوسف (عليه السلام) هو المسئول عن صوامع الحبوب والغلال والوزير الذي يأتمر الناس بأمره.
في ذلك الوقت ساءت حالة يعقوب (عليه السلام)، وشح عندهم الطعام، فقرر أولاده أن يقصدوا مصر ليرجعوا منها ببعض الطعام، فدخلوا على يوسف (عليه السلام)، فعرفهم وهم له منكرون، قال تعالى: ﴿وجاء إخوةً يُوسُف فدخلوا عليه فعرفهُم وهُم لَهُ مُنكِرُونَ﴾.
وما لبث أن عرفهم يوسف (عليه السلام) بنفسه، وعاتبهم فيما فعلوه معه، وأعطاهم قميصه، وطلب منهم أن يأتوا بأهلهم أجمعين، فلما وضعوا قميصه على وجه أبيهم عاد إليه بصره، وتلك معجزة من رب العالمين، قال تعالى: ﴿اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيرًا وأتُوني بأهلكم أجمعين﴾.
ولما حضر أهل يوسف (عليه السلام) جميعًا إلى مصر سجدوا تحية ليوسف (عليه السلام)، قال يوسف لأبيه يعقوب (عليه السلام): هذا تأويل رؤياي قد جعلها ربي حقًا، ويقصد بها الرؤيا القديمة التي رآها وهو صغير، قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ واجتمع يوسف مع إخوته وأبيهم يعقوب (عليهما السلام) في مصر، بعد أن تفرقوا واختلفوا من قبل.
انتهي الأب من رواية قصة يوسف (عليه السلام)، والطفلان يستمعان باهتمام، حتى سألهما ماذا استفدتما من القصة؟
قال الابن يوسف: هل تقصد يا أبي أن غيرتهم من أخيهم الصغير كانت سبب كل الشرور؟ قال الأب: نعم يا ولدي، إن الغيرة جعلتهم لا يرون الحق، ويظلمون أخاهم، ويظنون أن أباهم يفضله عليهم.
قالت رحمة وهل يمكن أن تجعلهم الغيرة يتخلصون من أخيهم الصغير الذي لم يؤذهم أبدًا؟ قال الأب: تصوري يا بنيتي كيف يمكن أن يتصرف الإنسان لو ترك نفسه للشيطان يغويه فيجعله يؤذي أحب الناس إليه؟!
قال يوسف ورحمة في آن واحد: نحن نحبك ونحب أمنا ونحب “طارق” أخانا الصغير، ولن نجعل الشيطان يؤثر علينا، ويجعلنا نكره أخانا مثلما فعل مع إخوة يوسف (عليه السلام).
قال الأب: بارك الله فيكما، وحفظكما ولدي الحبيبين.