استقبله صديقه إبراهيم في مقهى الزهرة بشارع عماد الدين مرحبا فتصافحا بحرارة وجلسا، وإبراهيم يقول له باسما:
– أخيرا اقتنعت… وهذه علامة طيبة!
فقال له سليم وهو يفكك أزرار معطفه الرمادي: نعم… ما دمت تراها فكرة صائبة.
فقال له الآخر بحماس: تأكد أنك لن تندم… فإن لم تجد فيها كل ما ترغبه… فستجد فيها على الأقل تجربة جديدة… وعالما آخر! وهز سليم رأسه موافقا… جاء الجرسون بالقهوة فاحتسياها على عجل وسليم يتأمل وجوه رواد المقهى بذهن شارد… ثم نهض إبراهيم ودعاه للقيام فتبعه في صمت إلى خارج المقهى. واصلا السير في اتجاه شارع رمسيس ثم انحرف إبراهيم بصديقه يمينا في شارع جانبي لبضع خطوات ومال به ناحية اليسار، فوجد سليم نفسه أمام مبني بدا له كالجراج المهجور على الرغم من لافتة النيون المضيئة باللون الأحمر… ولوحة الإعلانات الباهتة التي تعلو مدخله… تقدم إبراهيم ورفع يده بتحفظ للرجل الواقف بالباب فرد الآخر تحيته بحرارة تشي بمعرفته السابقة له، وعبرا الباب إلى ممر شبه مظلم انتهى بهما إلى باب على اليمين، عبراه إلى صالة واسعة تتصدرها حلبة دائرية من الخشب تعلو الأرض بارتفاع قليل وجاء الجرسون مرحبا وقادهما إلى مائدة مطلة على الحلبة. ووقف ينتظر التعليمات فأشار له إبراهيم بأصبعه قائلا: اثنان!
والتفت إلى صديقه الجديد على المكان وقال له: مكان قريب وفي وسط المدينة… والسهرة فيه محتملة التكاليف… وقد تنتهي بمتعة إضافية إذا حالفنا التوفيق!
فتأمل سليم المكان حوله. فرأي بارا صغيرا في جانب من الصالة تجلس إليه ثلاث فتيات وشخصان… ورأي الموائد تحيط بالحلبة الدائرية من كل جانب لكن أكثرها خال من الرواد ولا يشغل مقاعدها سوى تسعة أو عشرة أشخاص آخرين يروح ويجيء العاملون بالمحل بينهم. ولاحظ حوائط الصالة المتجردة من طلائها ومفارش الموائد التي لا تخلو من ثغرات فتأكد له بؤس المكان وفهم سر اعتدال تكاليفه. جاء الجرسون بكوبين طويلين ووعاء للثلج وطبق به بعض حبات السوداني، فنظر إليهما سليم في حرج وقال لصديقه: أليس من المناسب أن أكتفي في البداية بالفرجة حتى آلف الجو.
لكن الآخر رفع الكوب إلى فمه وحثه على أن يرفع كوبه، مؤكدا له أنه لن يألف المكان إلا إذا انغمس في التجربة بكل تفاصيلها. فأذعن سليم لرغبة صديقه ورفع الكوب إلى فمه ببطء ففاجأته رائحته… ومرارة مذاقه المزعج… فتجرع أول جرعة منه محاذرا أن يرتسم نفوره وامتعاضه على وجهه.
ودعا إبراهيم الجرسون مرة ثانية بنفس الإشارة فجاء حاملا كوبين جديدين… وتكررت نفس المحنة… لكنه بدا أقل نفورا من المكان بعد الكوب الثاني. وشهدت الحلبة الدائرية صعود خمسة أشخاص يحملون الآلات الموسيقية معظمهم كهول بائسون ثم بدأت فقرات البرنامج فتوالت أمام عينيه فقرات للرقص أو الغناء أثارت إشفاقه على مقدميها أكثر مما أثارت ابتهاجه واستمتاعه. وفي توقيت حاسم أشار إبراهيم بيده إلى إحدى الفتيات الجالسات في مقاعد البار، وهمس سليم بالاعتراض مناشدا صديقه الاكتفاء بالمشاهدة في تجربته الأولي… لكن الآخر طالبه بخوض التجربة… كاملة… وحسم نقاشهما مجيء الفتاة وفي إثرها الجرسون فدعاها إبراهيم للجلوس وطلب لها مشروبا… وجلست بين الصديقين تفتعل المرح وتداعب الضيف الجديد. فلم يغب عن سليم تكلفها وتعثرها في فستان أكبر من حجمها وتنافر ملامحها الريفية مع ماكياجها الصارخ، واستقر الرثاء لها في أعماقه، حاول قدر جهده ألا يخذلها ويتجاوب مع دعابتها بقدر الإمكان… لكنه أحس بثقل الوقت وبطئه وتمني لو لم يبدأ المشوار من البداية… وقرب الفجر غادرا المكان مودعين من الجرسون والفتاة التي اعتذرت عن الخروج مع إبراهيم بعذر
طارئ وأصرت على أن يعدها سليم بالعودة لرؤيتها مرة أخرى ففعل متظاهرا بالجدية… ووقفا يترقبان سيارة أجرة فسأله إبراهيم: ما رأيك في التجربة؟
واستشعر سليم لهفة صديقه الخفية على الإحساس بأنه قد قدم له تجربة ممتعة فبسط كف يده متظاهرا بالامتنان وقال له: لم أتخيل أن تكون ممتعة إلى هذا الحد! وراقب ابتهاج صديقه الطفولي بذلك في عطف وقال لنفسه: أقسى من التعاسة… إن تضطر رغاما للتظاهر بالابتهاج!
أنهي المكالمة مؤكدا لصديقه سيد أنه سيكون أمام باب المطعم الذي حدده له في الموعد تماما. وفي المساء توجه إلى ميدان السيدة زينب، فوجد صديقه ينتظره أمام باب المطعم ودخلاه معا. ارتقيا السلم إلى الدور العلوي… وراحا يتسامران في انتظار الشواء… وصديقه سيد يشيد بحكمته التي هدته أخيرا إلى أن يري عين الصواب فيما دعاه إليه مرارا من قبل. أكل قليلا كعادته في الشهور الأخيرة وفشلت محاولات سيد لحثه على الإكثار من الطعام استعدادا للتجربة، ثم غادرا المطعم سيرا على الأقدام… وسيد يروي له طرائف بعض أصدقائهما في مثل هذه السهرة الليلية فتساءل سليم في باطنه: هل يجيء يوم يحكي فيه سيد عنه بعض هذه الطرائف؟ ورغم ذلك لم يفكر في التراجع… وواصل السير مدفوعا برغبة غامضة. بلغا بيتا متهدما ففوجئ سليم بصديقه سيد يدفع بابه الخشبي ويدعوه للدخول فدخل وراءه متهيبا… وسارا بين جدران متهدمة خشي سليم أن تسقط فوقهما في أي لحظة… إلى أن وصلى إلى منور سماوي… فدهش سليم حين رأي عددا من الأشخاص يجلسون فيه فوق دكك خشبية متناثرة… ويتنقل بينهم أشخاص يرتدون الجلابيب ويحملون أدوات التدخين مشرعة كالحراب. اتجه به سيد إلى إحدى
الأرائك وجاء أحد الرجال ناحيتهما وتبادل التحية مع سيد، ثم جلس القرفصاء أمامه وبعد قليل وجه إليه غابة طويلة استقبلها سيد بترحاب ثم جذب منها أنفاسا عميقة ونفث من فمه دخانا كثيفا له رائحة عطرية… ثم مال بها إلى صديقه سليم وهو ينظر إليه حاثا له على الإقدام، فتناولها الآخر بخوف… وسحب أنفاسا خفيفة مترددة.
وسيد يشير للرجل بأن يترفق به في البداية فيجيبه الرجل بهزة من رأسه تفيد أنه يعي الموقف تماما.
وترددت الغابة بينهما مرارا وتشجع سليم شيئا فشيئا فتخلي عن بعض حذره… وأحس بثقل غريب في مؤخرة رأسه وفقد الإحساس بغرابة المكان وانحصر عالمه في تلك اللحظات في هذا الحيز الصغير من الدنيا.
ولم يدر هل طال الوقت أم قصر قبل أن يجذبه سيد داعيا إياه للنهوض فسار وراءه مسلما له قياده، وهو يغالب رغبة عجيبة في الكلام والثرثرة في حين ران الفتور على صديقه سيد وفقد الاهتمام بكل شيء حتى بصديقه الذي دعاه لدخول هذا العالم الغريب! وفي الميدان الواسع أوقف سيد سيارة أجرة وهم بركوبها مودعا صديقه فانتاب سليم إحساس مفاجئ بالفزع وسأله مضطربا: هل تتركني أعود وحدي للبيت؟
فتنبه سيد رغم فتوره إلى حداثة صديقه في التجربة وأدرك الموقف فدعاه للركوب معه على أن يوصله إلى بيته أولا!
توقفت سيارة الأجرة عند باب النصر الأثري… وغادرها الصديقان وحامد يقول لسليم: ليس المكان بعيدا عن هنا لكن سيارة الأجرة لا تستطيع دخول الحارات الضيقة… فهز الآخر رأسه متفهما ومضي وراء صديقه يجوبان الأزقة وينحرفان يمينا ويسارا في حوار ضيقة متداخلة حتى تعجب سليم لمهارة صديقه في الاهتداء إلى غايته من خلالها بغير خريطة. وأخيرا توقفا أمام بيت قديم… وطرق حامد الباب فانفتح وجاءه صوت من أعلي السلم يدعوه للصعود. فارتقيا السلم الحجري القديم إلى أن أنتهي إلى بسطة يقف فيها رجل بدين مريح الملامح… أبيض اللحية… مشرق الوجه ما أن بلغ حامد موقفه حتى استقبله فاتحا ذراعيه فتبادلا العناق وتقبيل الوجنات. ثم استدار حامد ليقدم إليه صديقه… ففوجئ سليم بالرجل يفتح له ذراعيه مرحبا ومعانقا بحرارة كأنه صديق قديم ثم يقودهما إلى الداخل، وهو يقول لسليم بوجه بشوش: إذن فأنت صديق حبيبنا حامد الذي حدثنا عنه طويلا… ورجوناه أن يدعوك لزيارتنا مرارا… فلم تستجب… لكن لا وجه للعتاب ما دمت قد شرفت بيتنا المتواضع.
فتعثر سليم في خجله وردد بعض عبارات الاعتذار، ثم دخل الجميع غرفة واسعة فرأي سليم عند دخولها حوالي عشرة رجال من أعمار مختلفة تبدو هيئتهم محترمة ينهضون من الأرض واقفين ومرحبين ومعانقين لحامد… ومصافحين لسليم بحرارة وألفة غريبة… ثم جلس الجميع إلى الأرض التي يكسوها بساط ثمين وليس فيها من الأثاث سوي مكتبة حائط صغيرة… وتليفون!
وبعد قليل جاء رجل حاملا صينية ملأى بأكواب الشاي، فتوجه بها إلى رب البيت الذي نهض من جلسته وطاف على الحاضرين يقدم لكل منهم كوبه فينهض احتراما للرجل ويتقبل منه الكوب شاكرا. تأمل سليم الحاضرين في صمت، ولاحظ لدهشته أنه قد ألف المكان والأشخاص على وجه السرعة على عكس طبيعته، وتلذذ بمذاق الشاي الساخن وتمني لو استكمل المتعة بتدخين سيجارة لكنه لاحظ أن الجميع لا يدخنون فكتم رغبته… إلى أن فوجئ بصاحب البيت يخرج يده من جيبه حاملة علبة سجائر أمريكية ثم يقدم له منها سيجارة فتوقف أمامها محرجا… لكن الرجل قال له باسما في فهم:
– لا بأس بالسلوى للقلب الحزين… فدخن ولكن باعتدال فحبيبنا حامد يقول لنا: إنك تسرف في التدخين والقهوة… وهذا ضار بالصحة ولا يليق برجل كامل مثلك، فشكره وتناول السيجارة منه… وأسرع بإخراج علبته وقدمها للرجل راجيا أن يتناول إحدى سجائره فتقبلها شاكرا… وهم بأن يطوف على الجالسين بعلبة سجائره فأعفاه حامد من المحاولة، قائلا له: إنهم جميعا لا يدخنون. وبعد قليل تنحنح صاحب البيت ثم قال: درسنا الليلة عن الصبر! فتلقي قلب سليم الإشارة واجفا… وانطلق الرجل في حديث مريح استغرق نصف ساعة عن فضل الصبر على الشدائد… ومنزلة الصابرين عند ربهم تخللته عبارات الاستحسان من الحاضرين واختتمه الرجل باسطا يديه إلى أعلي وداعيا الحاضرين للدعاء بالصبر لكل المكلومين! وشاركهم سليم الدعاء وهو يتجنب نظرات الحاضرين… ثم نهض رب البيت داعيا الجميع للصلاة، فأدوا صلاة خفيفة وعادوا للجلوس، وعاد الرجل بصينية الشاي فتناولوها بنفس النظام السابق وراحوا يتسامرون بعض الوقت ثم قال رب البيت لأحد الحاضرين: لاحرمنا الله من صوتك! فابتسم الرجل في حياء، ثم رفع يده إلى إحدي أذنيه وانطلق ينشد بصوت جميل:
وقالوا شربت الإثم كلا وإنما
شربت التي في تركها عندي الإثم
فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحيا
ومن لم يمت سكرا بها فاته الحزم
فجزع سليم للإشارة الصريحة إلى الخمر في مثل هذا المجال وراقب الحاضرين خلسة، فوجدهم جميعا غير مستنكرين، فلاذ بالصمت وانتهت الجلسة بعد منتصف الليل وغادرها مودعا بحرارة من صاحب البيت وزواره ومؤكدا لهم عودته إليهم مرة أخري… ولم يستطع أن يمنع نفسه من السؤال عما لفت نظره، فسأل حامد وهما يسيران في الأزقة المتعرجة: هذا الرجل الذي غني هل هو منشد أم مطرب؟
فأجابه الآخر: لا… إنه موظف كبير بدرجة وكيل وزارة. فسكت قليلا ثم قال له: ألم تلاحظ أنه أنشد شعرا عن الخمر في هذا البيت؟ فضحك حامد بابتهاج، وقال له: ماقاله ليس من شعره… لكنه من شعر ابن الفارض… والكلام عن الخمر فعلا… لكن الإشارات والرموز أبعد ما تكون عنها، والصوفية يتعاطون خمر الحب الإلهي… لا خمر الحانات!
* * *
دخل على طبيبه حاملا التحليل والأشعات التي طلبها منه ففحصها الطبيب باهتمام ثم رفع رأسه عنها وقال له:
كما توقعت تماما… لا شئ البتة… والأرق والصداع وضيق التنفس واضطراب ضربات القلب وفقد الشهية والحيوية ليس لها كلها أسباب عضوية فامتنع عن التدخين أو خفف منه… ولا تسرف في احتساء القهوة… وتشاغل عما يزعجك.
فشكره وانصرف وهو يحس بأن زيارته لم تضف له جديدا.
تنبهت الزوجة في فراشها فلم تجده الي جوارها، فخمنت أن يكون كعادته طوال الشهور الأخيرة جالسا في غرفة المعيشة يحرق صدره بالسجائر المتواصلة وفناجين القهوة المتتالية، وهمت أن تدعه لحاله لكن صوتا مكتوما ترامي إليها، فنهضت من فراشها منزعجة وأسرعت الي غرفة المعيشة فرأته كما توقعت مرتميا على الأريكة يجهش ببكاء مرير وجو الغرفة ملبد بدخان السجائر… فوضعت يدها على رأسه برفق… وتنبه سليم لوجودها فحاول كتم بكائه بلا جدوى، وشاركته البكاء الصامت لفترة ثم ربتت على رأسه، وقالت له: غلبني النوم قبل مجيئك فلم أستطع إبلاغك بما قالته لي الطبيبة هذا المساء… لقد قالت لي: إنني أستطيع الإنجاب مرة أخرى رغم مرور ثماني سنوات على حملي الوحيد، وأكثر من ذلك كانت لطيفة فقبلت أن تصف لي دواء منوما جيدا وتناولت قرصا منه في المساء فاستسلمت للنوم بعد لحظات. فقم معي وتناول قرصا منه، إنه ساحر المفعول ثم جذبته من ذراعه فاستسلم لها ومضي الي جوارها الي غرفة النوم وهي تجفف دموعها الصامتة… وحلم الاستغراق في النوم بعد تناول القرص الجديد يراوده واعدا بالراحة بعد العناء والحلم الآخر بإنجاب طفل جديد يتعزي به عن فقد الغالي في تلك الظروف المأسوية…
يداعب أعماقه الحزينة ويتردد في باطنه بين الارتياح له… والشك فيه!
بقلم: عبدالوهاب مطاوع