لو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا، ولو شاء الله ﷻ ما كان على وجهها عاصٍ ولا مُفسد، ولو شاء الحكيم الخبير لأقام الدولة الإسلامية كأقوى ما تكون الدولة، وعلى أيسر ما يكون من الأمر، وفي أقرب ما يكون من الزمن.
ولكنها الحكمة الربانية البالغة، ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ | وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.
نشأة الدولة الإسلامية
وكذا أراد الله جلت حكمته للمسلمين السابقين؛ فتن متواترة، وشدائد متعاقبة، وبغي وطغيان، وتعذيب وتشريد. حتى إذا صُهرت النفوس، وانتفت عنها أخباثها، ومحصت القلوب حتى أشرقت بنور ربها، وتربى القادة الأولون كأحسن ما تكون التربية، وأعد للدولة خير الدعائم وأقواها.
آن إذ ذاك أن تقوم الدولة الإسلامية، فهيأ الله ﷻ لها أسباب قيامها، وكان من صُنع الله -جل قدره للدعوة الإسلامية، أن هيّأ الأوس والخزرج لقبولها والقيام لنُصرتها، بعد أن أعرض عنها المعرضون، وقاومها الطغاة الظالمون.
فالتقى ﷺ في موسم الحج قبل الهجرة بعامين عند العقبة، برهطٍ من الخزرج؛ آمن منهم ستة نفر. وفي الموسم التالي التقى ﷺ عند العقبة أيضًا باثني عشر رجلا من الأوس والخزرج. أسلم منهم من لم يكن أسلم من قبل، وبايعوه على مثل ما بايع عليه النساء عام الفتح، ولم تكن إذ ذاك بيعة على حماية ولا على جهاد.
وأرسل إلى المدينة المنورة مصعب بن عمير ليقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، وليدعو إلى سبيل الله؛ فأسلم على يده خلق كثير، وفشا الإسلام في المدينة.
وفي الموسم الذي بعده لقي ﷺ -أوسط أيام التشريق- عند العقبة، ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين؛ فبايعوه جميعا، على أن يعبدوا الله وحده لا يشركون به شيئا، وعلى أن يمنعوه هو وأصحابه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وأبنائهم وعلى حرب الأحمر والأسود؛ ونقّب عليهم اثني عشر نقيبا.
فكانت هذه البيعة الكبرى في اللقاء الثالث عند العقبة، وهي البيعة التي نزل فيها قول الله ﷻ ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ..﴾ الآية.
واقرأ هنا: علمتني الهجرة النبوية أن رسول الله ﷺ في عناية ربه
الأمر بالهجرة إلى المدينة
وبهذه البيعة التي أخفوها عن كفار قريش وكفار قومهم، وُلدت الدولة الإسلامية الناشئة، ووجد الإسلام داره، ووجدت الدعوة أنصارها. فأمر ﷺ أصحابه ومن معه بمكة من المسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال لهم «إن الله ﷻ قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها».
فخرجوا أفرادا وجماعات، وتتابع خروجهم حتى لم يبق بمكة من المسلمين إلا من فُتِن أو حُبس، وسوى أبي بكر وعلي -رضي الله عنهما-، فقد استبقاهما ﷺ.
بدأت هجرة المسلمين من مكة عقب البيعة الكبرى وتمت في وقتٍ قريب، وانقضى على بداية هذه الهجرة شهران وبعض الشهر قبل أن يهاجر ﷺ، الذي أقام بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج والهجرة إلى المدينة المنورة. فلِمَ لم يهاجر ﷺ مع طلائعهم؟ ولما تأخر الإذن له؟
أن لهذا حكمته الربانية وأسراره الإلهية التي لا تخفى على من فكَّر وتدبر، وسبر الأغوار واعتبر.
فما كان له ﷺ؛ وهو صاحب الدعوة، الهادي الأعظم، وهو الرسول التي نعته الله لعباده بقوله ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾؛ ما كان له وهذا منصبه، وذلك مدى حرصه ورحمته بأمته؛ أن يترك من ورائه من استجابوا لدعوته، أو أحدًا منهم وهو لا يدري ما يصنع بهم كفار قريش وطغاتهم.
ومن حقه وحقهم أن يكونا على بينة من أمرهم وشاهد مصيرهم أجمعين. هذا إلى أن الله جلَّت حكمته، أراد أن يظهره على عظيم آياته، ومبلغ رعايته له، وعصمته له من الناس، وبالغ تدبيره لنصرته، وكبت أعداءه وإحباط مكر الماكرين وكيد الكائدين؛ ليكون ذلك طُمأنينة له وعبرة لأولي الألباب في عهده ومن بعده.
ولا يفوتك الاطلاع على: بعد أكثر من ١٤٠٠ عام.. مازلنا نستخرج عظيم الدروس والعبر من الهجرة النبوية
مؤامرة قريش في دار الندوة
لم يكن أئمة الكفر من قريش أول الأمر على بينةٍ مما كان من شأن هذه البيعة، ولم يتضح لهم ما يكون لها وللهِجرة من العواقب إلا آخر الأمر، فحذروا خروجه من بينهم وعرفوا أنه أجمع لحربهم، لا يأمنون رتبته عليهم.
فاجتمعوا بدار الندوة، يتشاورون في أمره، واندس بينهم عدوّ الإنسانية -لعنه الله- في صورة شيخ نجدي.
فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وغلقوا عليه الأبواب حتى يصيبه ريب المنون. فرد النجدي هذا الرأي.
فقال آخر: ننفيه من بلادنا ولا نبالي أين يذهب. فلم يرضى اللعين عن ذلك أيضا.
فقال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلةٍ فتى شابا جليدا نسيبا، يعمدون إليه، فيضربونه بسيوفهم ضربة رجل واحد، ويقتلونه، فنستريح منه، ويتفرق دمه في القبائل، ولا يقوى بنو عبد مناف على حرب قومهم أجمعين، ويرضون مِنا بالعقد؛ فنعقده لهم.
فقال النجدي: القول ما قال، وهذا الرأي لا رأي غيره.
فتفرَّق القوم على ذلك. وأوحى الله ﷻ لرسوله ﷺ بما يمكرون، وأمره ألا يبيت على فِراشه الذي كان يبيت عليه، وأذِن له في الهجرة.
فلما كانت عتمة من الليل، اجتمع المتربصون على بابه يرصدونه، حتى إذا نام وثبوا عليه.
فلما رأى مكانهم قال لعلي -رضي الله عنه- «نم على فراشي، وتسج ببردي، ولن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».
وخرج ﷺ وبيده حفنة من تراب، ينثرها على رؤوس المتربصين، وهو يقرأ من أول ياسين إلى قوله ﷻ ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾، فما عرفه أحد منهم وبقوا في غفلتهم وجهالتهم؛ حتى أتاهم من أخبرهم بخيبة مسعاهم.
أما هو ﷺ فذهب إلى الغار، فبات، وأتى بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، وبدأت الهجرة النبوية بما حوت من معجزاتٍ وعناية ربانية.
وفيما كان من تدبير أئمة الكفر؛ يقول الله ﷻ ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
وختامًا -ولأهل الاختصاص- نوصيكم بالاطلاع على: خطبة عن الدروس المستفادة من الهجرة النبوية. نسأل الله ﷻ أن ينفعنا وإياكم بالعِلم النافع.