رن جرس التليفون وهما يتناولان طعام الإفطار وحيدين كعادتهما منذ ثلاث سنوات، فنهض الابن ليجيبه وتبادل بعض كلمات التحية مع محدثته ثم حمل التليفون إلى أبيه وعاد للجلوس إلى المائدة، وهو يقول له: عمتي خديجة يا أبي. فتناول الأب السماعة ورحب بشقيقته وهو يرقب ابنه في حذر كأنما يخشي أن يفهم شيئا من موضوع الحديث.. ثم قال لشقيقته: ليس بعد يا خديجة سأفعل.. سأفعل وسأبلغك في حينه إن شاء الله.. شكرا مع السلامة!
ووضع السماعة فوجد ابنه يتطلع إليه مستفسرا، وكانت الوحدة قد جمعت بينهما منذ رحيل الأم منذ ثلاث سنوات وأزالت كل الحواجز، فاعتادا ألا يخفي أحدهما عن الآخر شيئا… فقال له الأب: عمتك تريدني أن أفاتح صديقي عبد العظيم برغبة أحد معارفها في التقدم لابنته، وقد وعدتها بأن أفعل اليوم لكن الوقت مازال مبكرا!
وعادا لتناول الطعام، فلاحظ الابن أن أباه لا يكاد يأكل شيئا ولفت نظره إلى ذلك، فنهض الأب عن المائدة رافعا طبقه وهو يقول لابنه: يبدو أن معدتي ليست على مايرام هذا الصباح.. لهذا سأكتفي بشرب الشاي في الشرفة.
ودخل إلى المطبخ فأفرغ طبقه من محتوياته وغسله وصنع كوبا من الشاي وتوجه به إلى الشرفة، ثم أشعل سيجارة وفتح صحيفة الصباح ودس رأسه فيها، كأنما يتجنب نظرات ابنه إليه ومن بين طياتها راح يرقبه في إشفاق، وهو يتناول طعامه ثم يرفع الأطباق ويعيدها للمطبخ ويرجع ومعه قطعة من القماش المبلل يمسح بها مائدة الطعام ثم يختفي في المطبخ من جديد.
الوحدة أفضل مدرسة لتعليم الإنسان كيف يعتمد على نفسه وقد تعلما منها أن يقوما بشئون حياتهما معا.. أما في الأيام الجميلة فلم يكن هو ولا ابنه يعرفان كيف يغسلان طبقا أو يصنعان طعام الإفطار.. كانت تقوم عنهما بكل العمل، وتحرص على أن يتلألأ مسكنها دائما ببريق النظافة والجمال، وتقول لابنها حين يعرض عليها مساعدتها في شئون البيت: حسبي منكما أن يكافح أبوك في عمله لتوفير نفقات حياتنا.. وأن تجتهد أنت في دراستك، أما البيت وشئونه فهما واجبي!
جميلة وطيبة وعطوف.. وأم بالفطرة، فاضت أمومتها على ابنها الوحيد وامتدت فأغرقته هو بعطفها وحبها. أسعد أوقاتها كانت في أوقات الصباح من يوم الجمعة. تنهض مبكرة.. تأخذ حمامها والزوج الحبيب والابن الأثير يغطّان في نومهما العميق ترتدي أجمل فساتين البيت وتتعطر وتعقص شعرها الطويل وتثبته بفراشة وردية، ثم تشعل أعواد البخور التي تتفاءل بنشر شذاها في مسكنهم يوم الجمعة، وتصنع لهما إفطارا مميزا لا يحظيان به إلا يوم العطلة ثم تدخل إلى زوجها النائم في فراشه وتوقظه برفق، كأنما تشفق عليه من أن تحرمه من نومه اللذيذ، فتهمس له داعية إياه للنهوض.. وتمهله مهلة أخري ليستمتع بدقائق أخري من النوم وتذهب إلى ابنها الوحيد في غرفته وتكرر معه المهمة بنفس الهمس العطوف فلا يغادران الفراش إلا وقد تنقلت بين غرفتيهما عدة مرات!.
قمة سعادتها حين يجلسون جميعا إلى المائدة فتوزع عليهم الطعام وتستحث زوجها وابنها على تناوله بشهية، أما شاي الصباح فموعده في الشرفة حيث يجلس الآن وحيدا مع صحيفته.. وقد تعلم الابن منذ طفولته أن يحترم موعده وأن يؤجل رغبته في الحركة واللعب إلى ما بعد الانتهاء من تناوله مع أبيه وأمه.
في المقعد المقابل له كانت تجلس وتصب الشاي. وتتلذذ باحتسائه ويستمتع هو بالحديث إليها.. ويتردد بين الكلام معها وبين قراءة الصحيفة.. فتحتج على انصرافه عنها إلى صحيفته وتعيد عليه رجاءها بألا يشغله عنها شيء في هذا الصباح الجميل! أما الابن فيحتسي كوبه خطفا ويسرع إلى الداخل لينفذ برامجه للعب والشيطنة هذا الصباح وتدعه أمه يفعل مايشاء بلا حرج.. ففي يوم الأجازة تختفي كل التحفظات والقيود.. ويرتع الابن في المسكن الجميل.. يبني قصوره من المكعبات. أو يدير قطاره الكهربائي أو يشاهد التليفزيون بلا تحديد لمواعيد المشاهدة كما في بقية أيام الأسبوع.
أما هي ففتنة متنقلة تتحرك في البيت الجميل نافثة عطرها وحيويتها وبهجتها على كل الأشياء. تختفي في المطبخ دقائق فيفتح صحيفته منتهزا فرصة غيابها ويستغرق في القراءة بعض الوقت، ثم يضع الصحيفة على الفور حين تهل عليه بابتسامتها الساحرة حاملة قهوة الصباح!
لم يكن قبل أن يتزوجها من هواة القهوة ولا من محبيها وفي أيامهما الأولي معا كان يتجرعها صابرا، مجاملة لها بعد الإفطار، ثم عشقها وأدمنها فأصبح أكثر حرصا عليها منها.. هوايتها بعد أن يفرغا من احتساء القهوة أن تقلب فنجانه في طبقه بعض الوقت وترفعه وتدقق النظر فيه باهتمام شديد يثير ضحكه ثم تبتسم في فهم أو تجلس ساهمة للحظات وهي تتمتم اللهم أجعله خيرا وهواجسها اللذيذة دائما هي: من هذه المرأة التي تظهر إلى جوارك في الفنجان؟ ولماذا تنظر إليها هكذا؟ وماذا تريد منك؟ فيضحك من أعماقه ويطلب أن يراها لكي يستطيع أن يجيبها على السؤال ثم يرفع يدها ويقبلها بامتنان فتهدأ خواطرها ويعود لها مرحها وابتهاجها!
عن أمها اكتسبت عادة تناول القهوة.. وهواية قراءة الفنجان فعرفت بذلك بين إخوته وزوجاتهم وإنهالوا عليها في كل زيارة بطلب قراءة حظوظهم.. وأحبوها لرقتها مع الجميع وطيبة قلبها ومشاركتها لهم في كل الواجبات العائلية، تزور المريض منهم وترجع من عنده محمرة العينين من البكاء إذا كانت الأزمة شديدة. وتشارك إخوته أحزانهم فتبكي مع الزوجة الغاضبة من زوجها.. والأم الحزينة لرسوب ابنها، وتجامل الصغار في مناسبات نجاحهم وأعياد ميلادهم وتدعو الجميع إلى عيد ميلاد ابنها الوحيد.. ودعاؤها المفضل في كل مناسبة هو أن يحفظ الله عليها زوجها وابنها، فمضت السنوات معها كالحلم الجميل. ولم تفارق بيتها مرة إلى بيت أسرتها غاضبة أو محتجة على شيء، ولم يتجاوز أي خلاف عابر بضعة أيام تمضيها أو بضع ساعات باكية دامعة العينين. ولم يشك منها أحد من إخوته أو زوجاتهم أو أزواجهم، فكأنما كانت جائزة السماء له عن حرمانه من أمه في طفولته وعن حرمانه من أبيه وهو في سن العاشرة وتنقله بين بيوت إخوته حتى تخرج وتزوج.
وقت الظهيرة من يوم الجمعة كان موعده مع أفضل الوجبات المحببة إليه والتي تتفنن في صنعها له من يوم الخميس حتى لا يشغلها عنه شيء يوم الاجازة.. وأما المساء ففي زيارة الأهل والأقارب أو في نزهة بريئة مع ابنهما الوحيد بالمدينة، وعبثا حاول أن يقنعها بالخروج صباح يوم العطلة في رحلة إلى أي مكان أو إلى أحد الاندية فسدت عليه كل المنافذ بأن سعادتها هي في أن تمضي أوقات الصباح معه ومع ابنها الوحيد في بيتها.
وفجأة شكت الزوجة الحبيبة التي لم تشك يوما مرضا من ألم عابر في صدرها.. واصطحبها إلى الطبيب فكانت زيارته نهاية للأيام الجميلة في حياته وبداية لرحلة العذاب والألم. فمن طبيب إلى طبيب تنقل بها واكفهرت السماء في حياتهما للمرة الأولي وتكاثرت السحب الثقيلة الكئيبة. حتى غابت عن بيتها ذات صباح حزين منذ ثلاث سنوات بعد رحلة قصيرة مؤلمة مع المرض وخلفت وراءها أرمل ذاهلا وصبيا حزينا في الثانية عشرة من عمره!
وواجه حياته الجديدة مكتئبا وممرورا وقاسي الأمرين مع بكاء ابنه المتصل على أمه الراحلة وافتقاده لها.. وحاول بكل جهده أن يعوضه عن غيابها فزاد من عطفه عليه ورعايته له.. وبالغ في الترويح عنه باصطحابه معه إلى ملاعب الكرة والسلة والمسارح ودور السينما وإلي كل مكان يذهب إليه، حتى اعتاد الجيران أن يروهما معا غادين رائحين مشتبكين دائما في حديث متصل.. ولاحظ هو بقلق أن ابنه ليس له أصدقاء من سنه عدا زملاء الدراسة، فشجعه على الاقتراب من أبناء إخوته وأبناء الجيران المماثلين له في السن وتبادل الزيارات معهم.
وبعد عام ثقيل تولي فيه كل شئون البيت وحده بدأ يدربه على تسوية فراشه بعد النهوض من النوم وتنظيف غرفته.. ورفع الأطباق عن المائدة وغسلها، ووجد استجابة طيبة منه لمشاركته اعباء حياته فاطمأن جانبه من هذه الناحية بعض الشيء، وواصل الأب عمله الحكومي وحياته الخالية من دفء الحب والزوجة العطوف، وبقي له من طقوس الأيام الجميلة حرصه على قضاء ساعات الصباح يوم العطلة في الشرفة بعد تناول الإفطار مع ابنه وقراءة الصحيفة.. واحتساء القهوة التي لم يعد أحد يستقرئ له طالعه فيها.وحرصه على أن يدع للابن أن يفعل مايشاء في يوم عطلته بلا قيود ولا تحفظات.. واستراح حين رآه يضيف إلى مشاغله فيه مع اقترابه من سن الفتوة أداء التمرينات الرياضية مستخدما بعض الأدوات الثقيلة.
ويوما قالت له شقيقته العطوف خديجة: إلام تبقى بغير زواج وأنت في سن الرجولة؟
فاهتز للفكرة اهتزازا شديدا ورفضها بإصرار، مشفقا على ابنه الوحيد من أن يحس ذات يوم بتراجعه عن بؤرة اهتمام أبيه.. لكن إخوته لم يسلموا بالهزيمة وانضم إليهم صديقه المقرب عبدالعظيم الذي ناقش معه مخاوفه طويلا من إيلام مشاعر ابنه بزواجه من امرأة أخري بعد أمه، وهون عليه الأمر واعدا بأن يتولى عنه مفاتحة الابن في ضرورة أن يتزوج أبوه من سيدة تخفف عنهما معا عناء وحدتهما وشكر صديقه طويلا ورجاه أن يؤجل ذلك إلى أن تدعو إليه الضرورة.. وفكر هو أكثر من مرة في أن يجس نبض ابنه تجاه الفكرة الجريئة فهم أكثر من مرة بأن يسوقها في صيغة تساؤل ضاحك عما إذا كان يزعجه حقا أن يتزوج أبوه ذات يوم بمن تشاركه الاهتمام بأمره، فوجد نفسه يتراجع في كل مرة في اللحظة الاخيرة!
ثم نهض ذات صباح من نومه منزعجا بإحساس البلل فهرول إلى الحمام وهو يغالب شعورا غريبا بالخجل والحرج وأسرع فألقي بملابسه في الغسالة كأنما يخفيها عن ابنه، وتساءل بعدها هل يستطيع ابن الخامسة عشرة أن يدرك حقا عمق احتياجه إلى امرأة أخري في حياته القاحلة؟
وكأنما قد أحست شقيقته خديجة بأن شيئا ماقد تغير في روحه تجاه فكرة الزواج فدعته لزيارتها وحده ذات مساء وقدمته إلى جارة لها مطلقة في الأربعين من عمرها ولديها ابنة وحيدة تعيش مع أبيها، وفهم الإشارة سريعا فلم يتراجع كما توقع وأمضي وقتا طيبا يتبادل مع شقيقته وضيفتها الحديث ثم غادرتهما الضيفة بعد وقت محسوب، فقالت له خديجة: طيبة وعاقلة وجميلة ومن أسرة كريمة وتحن إلى الاستقرار بعد ما صادفها من سوء حظ مع زوجها الأول.. فما رأيك؟
فسلم بما في خطتها من حكمة ظاهرة ووعدها بالتفكير جديا في الأمر.. ولاحقته خديجة في الأيام التالية بالسؤال عما انتهى إليه فكره وشاركها إخوته وصديقه المقرب بالضغط والإقناع حتى سلم بالقبول، ولم يتبق إلا الخطوة الأخيرة والخطيرة وهي مفاتحة ابنه الوحيد في اعتزامه الزواج، وعرض شقيقه الأكبر وصديقه عبد العظيم وشقيقته خديجة أن يتولى أحدهم المهمة لكنه أشفق على ابنه مما سيشعر به من حرج وألم تجاه الآخرين، وفضل أن يتولى الأمر بنفسه مطمئنا إلى أن ابنه لن يخفي عنه حقيقة مشاعره ومعاهدا نفسه ألا يقدم على الزواج إذا استشعر عمق تألم ابنه للفكرة أو إذا رفضها بعنف وإصرار!
وفي مساء الليلة السابقة زار شقيقته خديجة ووجد عندها جارتها بترتيب مسبق وتحدثا طويلا عن كل شيء.. ولم تختلف وجهات نظرهما حول شيء وكان قد التقى بها في الأسابيع الماضية عدة مرات، فاستشعر فيها صدق لهفتها على الاستقرار والنجاح في حياتها الجديدة.. ولمس في شخصيتها انكسارا وطيبة تعلق بهما أمله في أن يكونا بشيرا بعطفها المرتقب على ابنه الوحيد، ثم غادر شقيقته ليلة أمس واعدا إياها بمفاتحة ابنه في الأمر في صباح اليوم التالي وهو يوم العطلة الذي يجمعهما معا طوال النهار.
أفاق من أفكاره على صوت ابنه يقول له: عمتي خديجة على التليفون مرة أخري يا بابا فأنزل أبوه الصحيفة عن وجهه وتأمل ابنه باهتمام خفي وهو يرتدي الشورت والعرق يبلل ملابسه وسأله كم الساعة الآن يا هشام؟ فنظر الابن خلفه إلى ساعة الحائط.. وأجابه: الحادية عشرة. فتعجب الأب كيف مضت عليه ساعتان وهو في مجلسه يقرأ الصحيفة ولايكاد يستوعب منها شيئا، ثم نهض إلى التليفون متثاقلا.
وسمع الابن، وهو نائم على الأرض يرفع ثقلا صغيرا فوق صدره، صوت أبيه يقول لعمته: ليس بعد يا خديجة.. ليس بعد، قلبي لا يطاوعني.. نعم.. نعم سأحاول مرة أخرى.. شكرا لك!
بقلم: عبدالوهاب مطاوع