عناصر الخطبة
- أمر الله بتزكية النفس وتطهيرها.
- أهمية التزكية للفلاح في الدنيا والآخرة.
- الخطوات الأولى في طريق التزكية.
- مراحل تزكية النفس.
- العوامل المساعدة في تزكية النفس.
- الأهمية الحثيثة على تطوير الذات وتزكية النفس.
- أثر تزكية النفس في سعادة الحياة الدنيا والآخرة.
الخطبة الأولى
إن الحمدَ لله..
أمر الله ﷻ بتزكية النفس وتطهيرها من كل أمراضها المهلكة. وجعل الله ﷻ ذلك سبباً للفلاح في الدنيا والآخرة. يقول الله ﷻ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ الشمس: 9-10.
وكان من دعاء النبي ﷺ: «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يستجاب لها» صحيح مسلم.
ويقصد بتزكية النفس تهذيبها بقمع أهوائها وشهواتها وتخليتها عن الرذائل والذنوب. ما ظهر منها وما بطن. كالحقد، والغل، والحسد، والكِبر، والرياء، والغيبة، والنميمة، والشتم واللعن، وجميع مساوئ الأخلاق. فالمؤمن لا تستقيم نفسه إلا بالبعد عن المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها.
خَلِّ الذُنوبَ صَغيرَها
وَكَبيرَها فَهوَ التُقى
واعمل كماشٍ فَوقَ
أَرضِ الشَوكِ يَحذُرُ ما يَرى
لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً
إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى
وبعد أن يخلي المؤمن نفسه ويطهرها. يأتي دور تحليتها بالأخلاق الحسنة والفاضلة، كالإخلاص، والتواضع، والخوف، والرجاء، والشكر، والصدق، والوفاء، ونحوها من كل خلق سوي. وبذلك يسلك المؤمن طريق الجنة. يقول الله ﷻ: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ النازعات: 40-41. ولهذا قال العلماء: “التخلية قبل التحلية”.
وأول ما يبدأ به المسلم السالك في طريق التزكية. هو معرفة الأخلاق الذميمة وأمراض القلب، والتعرف على أسبابها وطرق علاجها. كما قال الشاعر:
وعِلْمُ دَاءٍ للقلوبِ مُفْسِدِ
كالعُجْبِ والكِبْرِ وداءِ الحَسَدِ
وبعد العلم بها يفتش في نفسه عنها فلا بد أن يجد شيئاً منها. فما وجده منها اعترف به ولا ينكره. فلا ينتصر لنفسه ويثأر لها. لأنها ظلومة جهولة، فلا بدّ للمسلم أن يبدأ باتهام نفسه دائماً. ولا يستسلم لأهوائها وشهواتها. فإنها من شأنها أن تكون أمارة بالسوء. يقول الله ﷻ: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يوسف: 53.
يقول ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه: “أصل كل معصيةٍ وغفلة وشهوة، الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفّةٍ عدم الرضا عنها”.
فإذا اعترف المؤمن بأمراض نفسه. جاء دور مجاهدتها وقمعها من غوايتها. ليستطيع توجيهها نحو الخير، ويمنعها من الشر. وليبدأ بمخالفة النفس في محبوباتها. فلا تعطها كل ما تتمناه وتهواه. بل أحرمها من بعض محبوباتها وشهواتها حتى تتمكن من السيطرة عليها ومنعها من المحرمات. يقول النبي ﷺ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ» سنن الترمذي.
يقول الإمام البوصيري رحمه الله ﷻ:
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى
حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
ورَاعِهَا وَهِيَ في الأَعْمَالِ سَائِمَةٌ
وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فَلَا تُسِمِ
كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ
وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا
وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ
يقول الإمام الغزالي: “اعلم أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، وقد خُلِقَتْ أمارة بالسوء، ميّالة إلى الشر، فرارة من الخير، وأُمِرْتَ بتزكيتها وتقويمها وقَودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها، ومنعها من شهواتها وفطامها عن لذاتها، فإن أهملتها جمحت وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك”.
ولا ينبغي للمرء أن يحسن الظنّ بالنفس. فإنَّ حسن الظنّ بالنفس يُعيقك عن التفتيش في مصائبها. بل عليك توبيخها كلمها دعتك إلى شهوة ومعصية. يقول الإمام الغزالي: ” إن لازمت نفسك بالتوبيخ والمعاتبة والعذل والملامة. كانت نفسك هي النفس اللوامة التي أقسم الله بها. ورجوت أن تصير النفس المطمئنة المدعوة إلى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية. فلا تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها. ولا تشتغلن بوعظ غيرك ما لم تشتغل أولاً بوعظ نفسك”.
يقول الإمام البوصيري رحمه الله ﷻ:
فَاصْرِفْ هَوَاهَا وَحَاذِرْ أَنْ تُوَلِّيَهُ
إن الهَوَى مَا تَوَلَّى يُصْمِ أَوْ يَصِمِ
وَرَاعِهَا وَهِيَ فيِ الأَعْمَالِ سَائِمَةٌ
وَإِنْ هِيَ اسْتَحَلَّتِ المَرْعَى فَلاَ تُسِمِ
كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةُ لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ فيِ الدَّسَم
ومما يعين على تزكية النفس الإقلال من الأكل والنوم والكلام. فإن كثرة الأكل موجبة للنوم والثقل عن العبادة. وكثرة النوم موجبة للخمول والكسل. وكثرة الكلام بغير ذكر الله ﷻ موجبة لقسوة القلب. عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُكْثِرُوا الكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ القَلْبُ القَاسِي» سنن الترمذي.
وإن مما يعين على تزكية النفس الإكثار من ذكر الله ﷻ. عن ابن عمر قال: قال رسول الله – ﷺ -: “إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء” قيل: يا رسول الله وما جلاؤها ؟ قال: ” كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن ” رواه البيهقي.
ومما يعين كذلك على تزكية النفوس كثرة ذكر الموت. عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «أكثروا ذكر هادم اللذات»، يعني الموت، سنن ابن ماجه.
ومتى زكت نفس المؤمن ارتقت من كونها أمارة بالسوء تأمر صاحبها بالمنكر إلى نفس لوامة تلومه إن فعل منكراً أو ترك واجباً. يقول الله ﷻ: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ القيامة: 1-2، حتى ترتقي لتصبح نفساً مطمئنة تتمنى الرجوع إلى بارئها. يقول الله ﷻ: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ الفجر: 27-30. ومن زكت نفسه استقامت حياته ونال السعادة في الدنيا والاخرة، فبذل نفسه رخيصة في سبيل الله ﷻ.
اللهم إنا نتوجه اليك في أهل غزة والضفة وأهل فلسطين أن تنصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. وارحم شهداءهم وتقبلهم في الصالحين. وخصَّ برحمتك أولئك الذين قضوا تحت الأنقاض ولم يتمكن أحد من الوصول اليهم أو الصلاة عليهم أو العثور عليهم من حجم الدمار وتطاير الأشلاء. اللهم وأنزل عليهم السكينة والطمأنينة، وشافي الجرحى والمصابين والمكلومين منهم. وخفف عنهم واربط على قلوبهم يا رب. ونذكّر أن الصلاة على الغائب من الشهداء والذين هم تحت الأنقاض بعد الصلاة والاذكار والسنة البعدية للجمعة.
⇐ وهنا لدينا أيضًا: خطبة عن مكانة المسجد في الإسلام – مكتوبة وبالعناصر
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ سورة آل عمران: 102.
واعلموا عباد الله ان الله قد أمركم بأمر عظيم بدأ به بنفسه وثنى بملائكة قدسه، فيقول الله ﷻ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ سورة الأحزاب: الآية 56، عن أُبي بن كعب رضي الله عنه: (أنّ من واظبَ عليها يكفى همه ويُغفر ذنبه)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: “مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا”، وصلاة الله على المؤمن تخرجه من الظلمات الى النور، يقول الله ﷻ: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ سورة الأحزاب: الآية 43، وهذا يتطلب التخلق بأخلاقه ﷺ ونقتدي بسنته في البأساء والضراء وحين البأس.
واعلموا أن من دعا بدعاء سيدنا يونس عليه السلام: ﴿أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ استجاب الله له، ومن قالها أربعين مرة فإن كان في مرض فمات منه فهو شهيد وإن برأ برأ وغفر له جميع ذنوبه، ومن قال: “سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر”.
وفي المصائب والكرب والشدة أوصى الرسول ﷺ بدعاء الكرب وهو: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم) رَوَاه الْبُخَارِيّ. فندعو به في شدائدنا وشدائد أهل غزة وفلسطين، واعلموا أن هذا الدعاء يناجي الله ﷻ في اسمه العظيم تذللاً لعظمة الله، والحليم رجاءً لحِلم الله، وربّ السموات والأرض ربّ العرش العظيم يقيناً بأن الأمر كله بيد الله، وأكثروا عند تكالب الأعداء علينا من قول (حسبنا الله ونعم الوكيل)، لأنّ الله ﷻ يقول: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ آل عمران: 173، 174.
والحمد لله ربّ العالمين..