يعتبر عالم الصغار صورة مشابهة لعالم الكبار، مع وضوح ما يميز كل من العالمين، وإن كان كثير من الناس يشتكي أن ولده لا يحب إلا نفسه، أو أنه لا يقبل آراء الآخرين، ويصفه بالعناد، فإن هذا جزء من الموروث السلوكي، يكتسبه الصغار من الكبار، وإن كان يصعب على عالم الكبار أن يعالج بصورة أنضج بعد الترسبات عبر سنين العمر المرحلية، فإن التأثير في عالم الطفل ربما يكون أنجح وأيسر، لعدم اكتمال شخصية الطفل في صورتها النهائية؛ ولأنه ما زال في طور التكوين. وتمثل ظاهرة الاعتزاز بالرأي وعدم قبول الآخرين، سواء قبول آرائهم أم قبول أشخاصهم من أهم الظواهر السلبية عند الطفل، وهي تمثل أيضا أولى الظواهر السلبية من الناحية الفكرية في المراحل المتقدمة من العمر.
أسباب وعوامل
وهذه الظاهرة لها أسبابها التي يجب الوقوف عليها، فكثير من الآباء يشكون من أبنائهم عدم قبولهم كثير من آرائهم، ويتهمونهم بصلابة الرأس، وقد يكون السبب في ذلك موقف الآباء الذين ينظرون دائما إلى آرائهم أنها صواب لا تحتمل الخطأ، وأن أطفالهم دائما إن كانوا معهم في جدال أو حوار أو نقاش، أو تبادل للرأي، فإن رأيهم وحده الصحيح، ويجب على الأبناء أن يستجيبوا لكلامهم، وربما كان في كلام الأطفال جانب من الصواب، أو كان رأيهم في بعض الأحيان هو الصواب، ورأي الآباء خطأ، فيتولد عند الطفل عدم قبول أي رأي إلا رأيه، لاكتسابه هذه الصفة بالوراثة من والده أو والدته.
كما أنه قد يكون للبيئة المحيطة أثر كبير في عدم قبول آراء الآخرين، ولوسائل الإعلام –أيضا خاصة المرئية— أثر واضح في هذا، بحكم أنها تمثل وسيلة من أهم وسائل التأثير في حياة الطفل في سنواته الأولى. وقد تكون سياسة القمع والجبر التي يراها الطفل من والده مع والدته، أو من أحد الأبوين معه أو مع إخوته أثر كبير في أن يكون الطفل ديكتاتورا في رأيه، لا يقبل رأي أي أحد.
الشورى هي الحل
وقد اعتنت التربية الإسلامية بتربية الطفل من خلال منظومة الأخلاق والسلوك في الإسلام، بحيث تساعد على تلاشي ظاهرة الديكتاتورية عند الأطفال منذ صغرهم، ومن أهم هذه الوسائل:
1— إنشاء العلاقة الحميمية بين الكبار والصغار، وخاصة بين الآباء والأبناء، لأن هذه العلاقة تنشئ جوا من التسامي الروحي، الذي تقبل معه النصيحة من كلا الطرفين، ويأتي هذا من خلال أوامر القرآن الكريم التي تحث على حسن التعامل مع الناس عموما، دون تمييز بين كبير وصغير، وإن كان المسلم مأمورا بالتعامل بالحسنى مع الكبار، فهو من الصغار أوجب، وقد قال الله ﷻ لرسوله ﷺ: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، وربما تكون هذه الآية أساسا من أسس تعامل الأبوين من أبنائهم، فيجب أن يكون التعامل بنوع من الحنان والعطف، لا بالقسوة والشدة على طول الخط.
2— اعتماد التشاور في الحوار، واتخاذ القرارات، فيستشير الآباء أبناءهم لا في شئونهم فحسب، بل ربما يكون ذلك أيضا فيما يخص شئون الأسرة، فلعل عند الأبناء ما ليس عند آبائهم، كما أن هذا سلوك تدريبي على اعتماد الطفل أسلوب الشورى وأخذ رأي الآخرين.
وقد كان النبي ﷺ يطبق مبدأ الشورى في الإسلام مع أصحابه، وربما كان فيهم صغير السن، تطبيقا لقوله ﷻ: (وشاورهم في الأمر)، فقد كان يجلس مع الصحابة وفيهم من هم أصغر سنا، كابن عمر، وابن عباس وغيرهما من صغار الصحابة. بل كان النبي ﷺ يعلم الشورى من خلال طرح الأسئلة والإجابة عليها، لبث روح التعاون بين أصحابه، فقد جلس النبي ﷺ يوما مع أصحابه وسألهم عن الشجرة الطيبة الواردة في قوله ﷻ: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)، فسكت الصحابة، وكان فيهم ابن عمر —وهو غلام صغير السن—، فلم يجب أحد، ووقع في قلب ابن عمر أنها النخلة، ولكنه استحى أن يذكر ذلك أمام جمع الصحابة، فلما ذكر النبي ﷺ لصحابته أنها النخلة، وانفض المجلس، فأخبر ابن عمر أباه عمر بن الخطاب أنه وقع في نفسه أنها النخلة، فتمنى عمر لو قالها ولده، وعاب عليه عدم إبدائه رأيه، ولو كان أمام الرسول ﷺ وصحابته.
3— مشاركة الصغار في القيام ببعض المهام مع الكبار، مع مراعاة ما يمكن أن يقوموا به من أعمال أو مشاركات، وقد كان النبي ﷺ يشرك بعض صغار الصحابة في بعض الأعمال التي يطيقونها، حتى لا يفهم أن هذا عمل الكبار وحده؛ لأن في إبعاد الصغار عن مشاركة الكبار إذكاء لروح الانعزالية عن المجتمع، فربما كان النبي ﷺ مع بعض أصحابه ونادى أحد صغار الصحابة وأسرَّ له بعمل يعمله دون أن يعرف أحد، فيترسب في نفوس الصغار والكبار أن المشاركة في المجتمع غاية في الأهمية وأن لكل دوره المنوط به، فلا يترك أثرا في نفس بعض أفراد المجتمع منذ صغرهم على كره المجتمع، والانتقام منه، أو الاستبداد بالرأي وعدم مشاركة الآخرين.
واقرأ هنا: وصفة سحرية لقتل ثقة ابنك بنفسه!
قبول الآخر
4— ضرب القصص للأطفال فيما يخص قبول الآخر، والتعاون بين الناس، وأخذ الآراء فيما يخصهم من مسائل، والأمثلة في تاريخ المسلمين لا حصر لها، ولعل في قصة النبي ﷺ مع زوجته أم سلمة حين استشارها في تباطؤ الصحابة رضوان الله عليهم في تنفيذ أمر ذبح الهدي وقص الشعر في العمرة، وحزن النبي ﷺ، ودخوله على أم سلمة، وشكايته لها، وإخبارها النبي ﷺ ألا يكلم أحدا منهم، وأن يخرج هو فيذبح الهدي، ويأمر حلاقته أن يحلق له، فإنهم إن رأوا هذا استجابوا لأمره، وقد استجاب النبي ﷺ لنصيحتها، وطبقها، وكانت بركة استشارة أم سلمة على الأمة كلها، لأن مخالفة الصحابة أمر الرسول قد يكون فيها هلاك لهم جميعا. وأن يُري الآباء أبناءهم أنهم يشاورن أمهاتهم، حتى يتولد عند الطفل أن يأخذ رأي زوجته، وألا يستبد بالرأي في بيته حين يكبر، لأنه رأى أباه يفعل هذا.
5— تصحيح بعض المفاهيم عند الصغار، ومنها أن كثيرا منهم لا يتعاون إلا مع من له صلة قرابة أو تربطه به صلة حميمة، بل نسعى أن نربي أبناءنا على المشاركة الفعالة في المجتمع، من خلال الأنشطة الاجتماعية المتنوعة، حتى لو كان من بين من يشترك معنا من نخالفهم في كثير من الآراء، وأن يتعود أطفالنا أن يشتركوا مع غيرهم، ولو كان مخالفين لهم في كثير الأمور، ما دام التعاون في شيء لا حرج فيه من ناحية الشرع، وما دام فيه مصلحة للمجتمع.
وقد نضرب لهم مثلا للنبي ﷺ في هذا، فقد مكث النبي ﷺ مع صحابته يوما، وتذكر حلف الفضول، وكان في الجاهلية، وهو أن العرب تعاهدوا فيما بينهم على نصرة الضعيف، وأن يأخذوا الحق من الظالم للمظلوم، وأن يسعوا للإصلاح في المجتمع بشكل كبير، وكانوا يجتمعون في دار ابن جدعان، وكان رجل من اليمن قد أعطى العاص بن وائل تجارة، ورفض العاص أن يعطيه ثمنها، فقام الرجل على جبل أبي قبيس ونادى في قريش أن يردوا إليه حقه من العاص، فتجمع كثير منهم، وكان من بينهم رسول الله ﷺ، وأخذوا من العاص ثمن البضاعة وردوها للرجل، وقد كان النبي ﷺ ساعتها شابا صغيرا، ولكنه سعد بهذه المشاركة بعد قيام دولة الإسلام، وأخبر أصحابه أنه لو دعي لمثل هذا الحلف الآن من غير المسلمين لاشترك فيه وأجابه.
ولعل في عالم الطفل حين يتعود الأطفال على رد الظلم، والأخذ على يد الظالم من زملائهم منذ الصغر وأد للديكتاتورية التي قد تنشأ في نفوس بعض الصغار، فإذا ظلم طفل آخر في المدرسة، يجب أن نعلم أبناءنا أن يقفوا صفا ضد هذا الطفل الظالم، وأن يأخذوا منه الحق المغتصب، ففي مثل هذا السلوك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأد للديكتاتورية في نشأتها، ومنع لكل طفل تسول له نفسه أن يكون ظالما، فإنه سيخشى وقفة الجميع ضده، مع تنبيهه على خطأ سلوكه.
طالع أيضًا: طفلي رجل أعمال!
الاعتراف بالخطأ
6— المبادرة بالاعتراف بالخطأ حين وقوع الطفل فيه، وأن يكون الآباء في ذلك قدوة لأبنائهم، فإن أخطأ الوالد في أحد أبنائه، فليعتذر له عن الخطأ، أو أخطأ الزوج في حق زوجته، فليعتذر لها أمام الأبناء، وكذلك الأم إن أخطأت في حق الوالد، يجب عليها أن تعتذر لزوجها أمام أبنائها، فإن رأى الأبناء ذلك، فإنهم سيتعودون على الرجوع عن الخطأ إلى الحق، ويا حبذا لو يذكر المعتذر من الوالدين لأبنائهم قصة سلطان العلماء العز بن عبد السلام، حين سأله رجل مسألة، فأفتاه برأي، فلما عاد إلى البيت وراجع المسألة، وجد أنه أفتاه خطأ، ولم يكن يعرف العز بن عبد السلام —رحمه الله— من هذا الذي سأله، فاستأجر رجلا ينادي في شوارع القاهرة: إن من سأل العز بن عبد السلام في مسألة كذا، وأفتاه بكذا، فإن العز يرجع عن جوابه؛ لأنه خطأ، والصواب أنه كذا. فيتعود الأطفال على الرجوع عن الخطأ، وأن يعتذروا عنه، فحين يشيع مثل هذا السلوك التربوي الرفيع، يكبح جماح الديكتاتورية في نفوس أبنائنا.
7— تثقيف الأبناء في عاقبة الظالمين من خلال القصص القرآني، والتاريخ المعاصر، وكيف أن كل ظالم أهلكه الله ﷻ، فهذا فرعون تجبر وتكبر وطغى في الأرض فسادا، واستبد بالرأي، ولم يكن يشاور شعبه، ويفعل ما يحلو له من الأخطاء والجرائم، فكان عاقبته أن الله ﷻ أغرقه لما أراد أن يقتل موسى ومن آمن منهم، فأغرقه الله ومن معه جميعا، وفي ذلك درس لئلا يتبع أطفالنا كل ظالم من زملائهم، لأنه لا يقوى الظالم إلا بأتباعه، بل يجب أن يكون أبناؤنا مع الحق دائما، فإن من مال إلى الظالم، حرقه بظلمه، وأهلكه معه. وفي قصة قارون، الذي كان يتجبر على قومه، ويرى أنه أرفع منهم مقاما، وأعلى منهم شأنا، وأن ما عنده من الثروة والمال إنما هو من علمه وذكائه، وليس لله في ذلك شيء، وكان يخرج مع خدمه وحشمه في موكب عظيم، مستعليا على خلق الله، فكان عقباه كما قال الله ﷻ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} [القصص: 81].
وفي تاريخنا المعاصر نماذج كثيرة للشعوب التي تخلع من ولته لسياسة أمرها؛ لأنه خالف المصلحة العامة، وأنه موضوع في مكانه ليقوم فيه بحقه.
8— تربية الطفل قبل كل هذا على تقوى الله ﷻ، وأنه عبد، خلقه الله، وأحياه، وأن لله عليه حق السمع والطاعة، فلا يفعل إلا ما يأمره الله ﷻ به، وأن يبتعد عما نهى الله ﷻ عنه، وأن يراقب الله ﷻ منذ الصغر في كل ما يفعل، وقبل أن يأتي أي سلوك ينظر: هل هذا الفعل لله، أم لغير الله؟ وقد كان السلف الصالح يربون أبناءهم وأقاربهم على مراقبة الله، فيقول سهل بن عبد الله، وهو أحد الصالحين من الأمة: كنت ابن ثلاث سنين أقوم في الليل، وأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار فقال لي يوما: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ قل بقلبك في فراشك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك: الله معي، ناظر إلي، الله شاهدي. قال: فقلت ذلك ليالي، ثم أعلمته. قال: قل في كل ليلة سبع مرات. قال فقلته. قال: قل ذلك إحدى عشرة مرة. قال فقلته فوقع في قلبي حلاوته، وأحسست بمعانيها. قال: فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة. فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لذلك حلاوة في سري. ثم قال لي خالي يوما: يا سهل من كان الله معه، وكان ناظر إليه وشاهده أيعصيه؟ إياك والمعصية. فحين نربي أبناءنا على مراقبة الله، فإننا ننزع من قلوبهم ظلم العباد، وظلم أنفسهم قبل ذلك.
وهنا تقرأ: في وصف الفقر.. الصغار يتكلمون
مساعدة المحتاجين
9— ولعل تعود الأطفال على مساعدة المحتاجين، وخدمة كبار السن ومساعدتهم يزرع في نفوس أبنائنا حب الغير، وفي قصة أبي بكر وعمر —رضي الله عنهما— في التسارع لخدمة المرأة العجوز قدوة حسنة، فقد كان أبو بكر خليفة المسلمين، وعمر قاضي القضاة، وقد سمع كل منهما أن هناك امرأة عجوزا لا تجد من يخدمها، فكان أبو بكر يخرج مبكرا قبل صلاة الفجر، يذهب إليها، يكنس لها البيت، ويحضر لها الطعام والشراب، ثم يذهب للمسجد، وكان عمر —رضي الله عنه— يذهب إليها، لكنه يجد كل حاجاتها قد قضيت لها، فكان يفعل ذلك كل يوم، فذهب عمر في يوم من الأيام في ساعة مبكرة، حتى رأى أبا بكر، فقال: أنت يا خليفة رسول الله؟ فطلب منه أبو بكر ألا يخبر بذلك أحدا، حتى يكون العمل بينه وبين الله. إننا حين نربي أبناءنا على حب الغير، والسعي لقضاء حوائجهم، لا يتصور مع هذا المنهج الإسلامي أن يصبح الولد ديكتاتورا، يستبد برأيه، ولا يعرف إلا مصلحته وحده، ولو أضر بالآخرين.
10— إفهام أبنائنا رسالتنا في الكون، فالإسلام رسالة إصلاح للعالمين، وليس للمسلمين وحدهم، وأن إخوتنا في الإنسانية نشترك معهم في كثير من القضايا، التي لا تخالف عقيدتنا، وقد كان النبي ﷺ يتعامل مع غير المسلمين، بيعا وشراء، ومساعدة، وقرضا وإقراضا، وقد يزور مريضهم، ويسأل عن غائبهم من غير المحاربين للمسلمين، فأصل رسالة الإسلام التعاون مع الغير، لصالح البشرية، بشرط ألا يحاربوننا في الدين، فلهم دينهم،ولنا ديننا، وعندنا ( لا إكراه في الدين )، ونحن جميعا بنو آدم، أورثنا الله ﷻ الأرض، فنسعى جميعا لإعمارها، ونتعاون فيما يعود بالنفع للإنسانية، ونحارب جميعا الظلم أيا كانت جهته، وأيا كانت ملة من يأتيه.
ولعل في هذه السمات التربوية من خلال المنظور الشرعي علاجا، قد يكون ذا أثر في تربية أبنائنا على الفضيلة وحب الخير للغير، وألا يكون مستبدين بآرائهم، تاركين الديكتاتورية الصغرى تموت في مهدها، قبل أن تصبح إمبراطورية تأكل الأخضر واليابس، ويعودها شرها أول ما يعود على أهلها، قبل غيرهم.
بقلم: د.مسعود صبري