المكان: إحدى مصحات علاج الإدمان في مصر.
الحدث: الاحتفال بتخرج (عشرة) من المدمنين واجتيازهم البرنامج الثقافي بنجاح.
الحضور: حوالي خمسين من زهرة الشباب المدمنين يلتف حولهم عدد من القادة الاجتماعيين والدينيين من بلاد مختلفة (مصر، سوريا، المغرب، الخليج…) وديانات ومذاهب مختلفة أيضا (سنة، شيعة، أرثوذكس، بروتستانت، كاثوليك…).
الجميع يحتفل بدفعة التخرج الجديدة.
قام الشباب المدمنون –بأنفسهم– بإعداد وأداء جميع فقرات الحفل من غناء ورقص و”تنطيط” احتفالا بزملائهم المتعافين، وكنت كلما راقبتهم وتأملت صفاء الضحكات ورشاقة الحركات تعجبت في نفسي: هل حقا هؤلاء مدمنون؟ هل يُعقل أن هذه النضارة وخفة الظل والحيوية والشباب والقوة قد قهرها وأذلها الإدمان؟! اللهم إني أعوذ بك من قهر الرجال، كما قال صلى الله عليه وسلم.
أتعجب وأتأمل
أتخيل هذا الشاب الوسيم –الذي يُمسك بالميكروفون– أتخيله وهو يسرق حافظة نقود أبيه –أثناء نومه– من أجل (شمّة) أو (حقنة)، وأتخيل ذلك الفتى اليافع الذي يغني في صخب وسط المسرح وهو يتسلل إلى حجرة أخته ليسرق قطعة من الذهب، وهذا الثالث الذي يصفق أتخيله وهو يدفع أمه أرضا عندما حاولت أن تثنيه عن الخروج من المنزل لأنها تعلم أين سيذهب!!.
أغمض عيني لحظات لأتأمل هذا المرض اللعين (الإدمان) الذي يقهر الرجال!!.
إدمان المخدرات أو المواقع الإباحية أو الإنترنت أو العادة السرية أو الطعام أو… أو… كلها صور مختلفة لنفس المرض “الإدمان”.
الشخص الذي يقع ضحية لهذا المرض هو شخص بطبيعته لديه استعداد عال للإدمان لأسباب وراثية أو اجتماعية، لذلك فهو يعاني من ميل (مزمن) و(دائم) تجاه إدمان أي صورة من هذه الصور، لذلك فهو يجب أن يظل في حالة “مقاومة” لهذا السلوك حتى الموت!! ولا يتوقف عن المقاومة إلا في الجنة!! وهناك يجد ثواب صبره ومقاومته.
وإذا ضعفت إرادة (لحظة) فإن هذا يعني بكل بساطة السقوط فريسة لانتكاسة جديدة.
والفارق بين “المدمن” الناجح القوي، و”المدمن” الفاشل الضعيف هو أن يتعلم من انتكاساته المتكررة حتى تتزايد مقاومته لتصبح صلابة المقاومة وذكاؤها أقوى من السلوك الإدماني المزمن.
أي أن المدمن يستطيع أن يتوقف عن ممارسة الإدمان إذا ظل “يقظا” و”مقاوما” “مدى الحياة” وهنا أمر ممكن وليس مستحيلا، ولكنه يحتاج إلى ثلاثة أركان:
- أولا: أن يؤمن أن هناك “قوة عليا” –وهو الله تعالى– تساعده عند ضعفه وتأجره على ابتلائه.
- ثانيا: أن يكون حوله صحبة صالحة يلجأ إليها لتدعمه كلما أصابته “اللهفة” للعودة.
- ثالثا: أن يحيا حياة إيجابية مليئة بالاهتمامات والأعمال حتى لا يقع فريسة لفراغ الذهن والوقت.
في الدوائر
انتهى حفل التخّرج، وكان حفلا ممتعا ومبهجا، وقد جرى العُرف في هذا المكان أن تكون آخر الفقرات هي أن يلتف جميع الحاضرين في دوائر ليقوم كل منهم بالدعاء في سره حسب ديانته ومذهبه لإخواننا المدمنين، ولأهلهم وكذلك للأطباء والعاملين ولكل الحضور.
هذه الدوائر التي تضم جنسيات وديانات مختلفة ذكرتني بحلف “الفضول” الذي نشأ في الجاهلية بين أفراد من قبائل وديانات مختلفة، ولكنهم اتفقوا على أمر واحد وهو أنهم جميعا ضد الظلم، وأنهم سيتعاونون في الوقوف ضد أي ظالم لينتزعوا منه حق المظلوم، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لو كان شهد هذا الحلف في عهده لانضم له وسانده وأيده.
تذكرت هذا الحلف وأنا أقف في تلك الدوائر التي تضم جنسيات وديانات شتى ولكنهم اجتمعوا على أنهم ضد الإدمان.. والآن جاء موعد تشبيك الأيدي!! وكان على يميني في الدائرة “الأب توني” وهو قس سوري مسيحي!! وجدت حرجا شرعيا في أن أمسك بيد الرجل لمدة عشر دقائق سواء أكان مسيحيا أو مسلما، وقلت في نفسي إن التعاون مع (الآخر) يجب ألا يبدد المبادئ أو الهوية؛ فابتسمت له ابتسامة صادقة تحمل اعتذارا مهذبا واحتراما وتقديرا ورغبة في التعاون ولكن دون حرج شرعي، فأحسن الرجل الظن بي، وتفهّم موقفي وتعامل مع مبادئي بخُلق رفيع، وابتسم قائلا بلهجته السورية الرقيقة: “الله بيوصلها.. الله بيوصلها”.
وظلت الحلقة بيننا غير متصلة جسديا، ولكنها متصلة معنويا، لعل الله تعالى يصلها، ويصل كل الدوائر التي تقف ضد الإدمان أو ضد أي (فساد) أو (شر) يهدد الإنسان.
وكان الدعاء الختامي الجماعي بصوت مرتفع: “اللهم امنحني القوة” حتى أستطيع أن أغير في نفسي ما يمكن تغييره، وامنحني “السكينة” حتى أستطيع تحمل ما لا يمكن تغييره، وامنحني “الحكمة” حتى أستطيع التمييز بينهما”.
بقلم: د. فيروز عمر
⇐ واقرأ أيضًا في المقترحات: