فندق “محندق” مثل واحة للجَمال المكلّف في قلب باريس: الفكرة في حد ذاتها ملفتة، فإن ذلك النوع الصغير وبالغ الخصوصية من الفنادق، “البوتيك أوتيل”، يعتني أساساً بالجانب الجمالي من المعمار والديكور وتنسجم مكوناته مع البيئة المقام فيها لتعكس تلك البيئة وتتحاور معها، فتكون تجربة الإقامة بمثابة مشاهدة عمل فني غير مألوف ويتم من خلالها استيعاب كامل لهوية جغرافية بعينها في خبرة مريحة وممتعة في آن. والبوتيك أوتيل لذلك يصعب تأسيسه في مراكز العواصم المزدحمة والمحتشدة بمعمارها ومعالمها.
لكن ها هو هذا الفندق يطل على نهر السين وكاتدرائية نوتردام مباشرة، ولا يبدو لوهلة خارج السياق. لقد اتخذ له مكاناً داخل أحد المباني الأصلية في “الحي اللاتيني” العائد تاريخها إلى القرن السابع عشر، فبدا وكأنه -مثل الكاتدرائية نفسها- مختبئ هنا منذ الأزل، وبدا وكأن وسط تلك المدينة الساحر يخبئ جوهرة لا يعلم بوجودها سوى من ينقّب في الأعماق.
لكن عليك -وبصرف النظر عن كل ذلك- أن تلتفت إلى التفاصيل، فالسؤال الذي يطرحه مثل هذا الفندق هو كيف يمكن لتصميمه الداخلي أن يتواءم مع العالم الضاد المحيط به وبأي وسيلة سيعكس روح مساحة جغرافية وثقافية بزخم وتنوع هذا القسم من “الحي الخامس”.
ولقد وُجدت إجابة وافية عن السؤال لدى مصمم الأزياء الفنان الذي أخذ على عاتقه مهمة إنجاز هذه اللوحة التكعيبية المركبة فصنع من جزء من المبنى التراثي فندقاً على اسم الكاتدرائية هو بمثابة عمل فني. إنه المبدع الشهير كريستيان لاكروا، وهو من مواليد مقاطعة آرل التي اشتهرت في أعمال فينسان فان جوخ، سنة ١٩٥١. لقد لجأ لاكروا فيما يعد أحد أهم إنجازاته إلى مزيج دسم من التراث التقليدي الرصين والشطح ما بعد الحداثي، ليقدم في كل ركن من أركان الفندق المصنف ٣ نجوم حالة خاصة هي معادل سكنى لتجربة باريس.
انتقل لاكروا من جامعة مونبلييه حيث درس تاريخ الفنون إلى السوربون ليقدم بحثاً في ملابس النساء في لوحات القرن الثامن عشر، كما التحق بمدرسة اللوفر ليتعرف على دراسات المتاحف، وافتتح معمله الخاص لتصميم وإنتاج الملابس الجاهزة سنة ١٩٨٧ حيث عرف بتصاميمه الباذخة وخياله الثرى بالألوان وتدرجات الملمس والحلي المستوحاة من شتى الثقافات والعصور والتي يختارها على الأرجح لتميزها وجرأتها وقدرتها على لفت الانتباه.
وفي “فندق دو نوتردام L´hôtel de Notre Dame” -والذي افتتح سنة ٢٠١٠- يثبت لاكروا، وقد بدأ يقوم بتصميم ديكور الفنادق منذ سنة ٢٠٠٥، أنه قادر على إنجاز كل من ست وعشرين غرفة متفاوتة المواصفات على حدة (يتراوح سعر الغرفة في الليلة ما بين ١٩٠ و٢٥٠ يورو)، فلا غرفة تشبه الثانية ولا استسهال في أي تفصيلة من تفاصيل كل غرفة. يبدع لاكروا حلماً مركباً في كل مساحة من المساحات، موظفاً خياله الباذخ في التنسيق غير المتوقع للسجاجيد وورق الحائط والستائر وللأثاث العتيق والألوان الباهرة داخل مساحات وإن بقيت ضيقة فهي حميمية ومريحة، معتنياً بالملمس والعلاقات الهندسية قدر اعتنائه بالنقش والتكوين، ومازجاً ما بين إضافاته الإبداعية التي لا يدخر فيها مالاً أو جهداً وبين التكوين الداخلي الأصلي للأسقف والحيطان القديمة في تنويعات مبتكرة وصادمة بقدر ما هي متناغمة وموحية.
إن لاكروا دائماً ما يتمكن من الجمع بين الأثاث التقليدي المعروف بطراز الإمبراطورية الثانية نسبة إلى عهد نابليون بونابرت والزينة الحديثة، أو العكس، حيث لا تكاد تخلو غرفة من إيماءات إلى أكثر من عصر واحد وطراز واحد في الفنون؛ ومع ذلك، لا يشعر المقيم في حضرة الكاتدرائية العتيقة بأي تجاذب أو تناقض بين العناصر المتداخلة لكل غرفة ولا يشعر بأنه في حالة فنقية أو مفتعلة، فلا ركن يشبه الآخر ولا شيء يبعث على البرودة أو النفور.
إن المقيم في إحدى غرف فندق نوتردام يشعر كما لو أنه قد انتقل إلى عالم من الفانتازيا المقترنة بالتاريخ، وهو الشعور ذاته الذي تثيره باريس في زائريها بأشكال مختلفة: عصر النهضة الأوروبي في تنوع وتداعى تجلياته عبر الزمان والمكان، بكل ثرائه وجرأته وميله إلى أجواء الخيال والأحلام.
ولا شك في أن لاكروا استفاد من معرفته العميقة بالأقمشة والخامات والأخشاب فضلاً عن ذوقه الفريد في فن التصوير، فقد تجد كرسياً من طراز القرن السادس عشر مجتمعة بلوحة فنية على طريقة البوب آرت ولا تشعر بتناقض بينهما، وقد تجد سجادة عجمية عتيقة أسفل منضدة معدنية ولا يلفتك تنافر العنصرين. وكما في أعمال ملابس لاكروا، تتجلى القدرة الساحرة على مزج طراز “الباروك” ببدع الستينيات الأمريكية.
ومما ساعد لاكروا على تحقيق رؤيته ولا شك أنه وضع لكل غرفة يتيمة وعنوانا، فثمة على سبيل المثال “الحديقة الإلهية”، و “ملوك المجوس”، وكلها مستوحاة من تاريخ الحي اللاتيني المحيط في مختلف عصوره، الأمر الذي يؤكد فرادة وخصوصية الفندق في اتصاله ببيئته المباشرة وتداعيات المدينة التاريخية.
إن هذه حقاً باريس كما يجب أن تكون، ولا يسع الزائر إلا الشعور بما شعر به مئات المشاهير من زوارها الآتين من جميع أنحاء العالم، ففي أوتيل نوتردام حقاً -وكما قال عميد الأدب العربي الراحل طه حسين عن العاصمة الفرنسية- كل آثار الجن، والملائكة.