قادته المصادفة إلى هذا المقهى الأنيق فانحرف إليه ليريح قدميه من التجوال بين المحالّ التجارية. موقع مثالي لمقهى يستريح فيه المشترون في أثناء الشراء، فلم يعجب لشغل معظم مقاعده بالجالسين والي جوارهم أكياس المشتريات.
جاء الدارسون فطلب فنجان القهوة المعتاد… وراح يتسلى بتأمل الجالسين حوله من رجال ونساء. عادة اكتسبها منذ فترة أن يتجول بين المحالّ منفردا بنفسه ثم يجلس في أول مقهى يصادفه ليستريح ويشرب فنجان القهوة ثم يواصل التجوال من جديد. المشي علاجه وسلواه وفترات الاستراحة القصيرة في المقاهي فرصته لكي يتأمل الوجوه ويحاول أن يستشف ما وراءها من شجون وأسرار. تلفت إلى يمينه فتسمرت عيناه على مشهد تمني لو كان رساما ليخلده بريشته في لوحة جميلة يرنو إليها كل حين.
فإلى مائدة قريبة جلس رجلان يوليانه ظهريهما، وأمامهما جلست سيدة جميلة تألق وجهها جميلا ساحرا بين كتفي الرجلين… فتعجب لملامحه المتناسقة كأنما نحتها مثال يعبد الجمال… وتعجب أكثر لشدة تشابهه مع وجه فتاته الوديع.
رشف من فنجانه رشفة جديدة… فرأي من فوق الفنجان الطفل الوليد يبكي… وأمه تهدهده بحنان وصبر وابتسامتها الجميلة لا تفارق وجهها، فتمني لو حمل عنها طفلها لتتفرغ هي للعناية بنفسها.
مثلها كانت جميلة ووديعة… ومثلها كانت تفيض حنانا على كل من حولها، ومثلهم كان يخرج معها إلى المحالّ التجارية يطوفان بها… ثم يدعوها للاستراحة في أول مقهى يصادفهما. فتلبي الدعوة مبتهجة.
كانت تحب التجوال بين المحالّ التجارية… ولا تطيق شراء شيء إلا إذا كان معها وسألته عن رأيه فيه وفي قيمته، باعتباره محاسبا ناجحا موعودا بالنجاح! وعنها اكتسب هذه العادة وعرف الطريق إلى مقاهي الأسواق. رآها لأول مرة في حفل قران شقيقه فلفتت نظره بجمالها وهدوئها وروحها الطيبة. سأل عنها شقيقته، فعرف أنها إحدى قريبات عروس شقيقه وتعيش وحيدة مع أمها وتعمل مدرسة. تأملها طوال الحفل فلاحظ معاملتها للجميع برقة واحترام، وبات ليلته مشغولا بها. باحتراس سأل عنها عروس شقيقه، وطلب منها أن تحبس نبضها تجاهه، فجاءت النتيجة مبشرة. بعد شهرين من الخطبة اعترفت له بأنها علمت بسؤاله عنها في حفل القران وتمنته لنفسها وترقبت الخطوة التالية من جانبه بقلق شديد… غمرته بعدها بشلال من الحب الدافق، وحولت أيامه إلى حلم جميل. حبيبتي نهر من الحب كان يبحث عن مصب له… ووجده فاستقام مجراه وترقرقت مياهه صافية. عذوبة الروح أبرز مزاياها… أما وجهها فنبع من الجمال الوديع لا تمل العين الارتواء منه. قالت له قبل الزواج:
انتظرتك كل سنوات عمري فلا تفارقني بعد أن عثرت عليك… فأجابها دامعا:
وكيف يفارق الجسم روحه حتى لو أراد ذلك؟
تزوجا بعد عامين من الخطبة، تلازما خلالهما كل يوم بعد انتهاء العمل حتى المساء، واشتريا مستلزمات عشهما الصغير معا ورقة ورقة، وتعاونا في كل شيء بسماحة، فلم يمض أسبوع دون أن يطوفا بالمحالّ أكثر من مرة حتى ملابسها اشترتها معه قطعة بعد قطعة واسترشدت برأيه فيها وكلما كلت أقدامهما التجوال، تلمسا أول مقهي يصادفانه وجلسا فيه يتهامسان ويتناجيان. جلسا في كل مقاهي وسط المدينة، لكنه لم يكتشف هذا المقهي الأنيق إلا اليوم، فكأنما كان على موعد مع وجه هذه السيدة الجميلة التي تهز ذراعيها بحنان لتهدهد طفلها… ترى من من هذين الرجلين زوجها؟
أيا كان زوجها فليسعد بها كما سعد هو بشريكة حياته حين ضمهما عشهما الصغير. ففي رحابة مضت الأيام سعيدة هادئة… وتبدت له بعد الزواج مزاياها الحقيقية، فازداد افتتانا بها، واكتشف أنها من هذا النوع الفريد من البشر الذي يصعب عليك أن تختلف معه… واذا اختلفت تعذر عليك أن تتمادي في الخلاف معه… وإذا تماديت عجزت عن أن تضيق به أو تكرهه! أما عذوبة روحها فلقد اجتذبت إليها قلوب كل من تعاملت معهم من الأهل والجيران وأصحاب المحالّ القريبة من المسكن. أما سر جاذبيتها فلقد عرفه منذ أن ارتبط بها فلمس فيها حبا صادقا لكل الناس وعطفا عليهم، واستعدادا مخلصا للعطاء لكل من يحتاج إليها، فقال لنفسه: حبيبتي عطف ورحمة فلتسعد بحياتها كيفما تحياها.
وعامان مضيا كلمح البصر من عمر زواجهما… فلم يشك خلالهما من شيء لكن فتاته ساورها القلق بسبب تأخر الإنجاب… فتكدرت بعض أوقاتها.
وإرضاء لها أجري تحاليله فلم تكشف عن شيء فيه… وتنقل معها بين عيادات الأطباء، وراقبها بإشفاق وهي تتجرع الأدوية وتلتزم بالعلاج وأطاعها راضيا فيما يخصه من تعليمات داعيا ربه أن يحقق لها أمنياتها لكي تهدأ خواطرها… أما هو فسيان عنده أنجبت الملائكة أم لم تنجب. ولم تيأس من حلم الحمل لحظة وأحست بمرارة الخذلان مرتين، فتعرضت للإجهاض المبكر وبكت طويلا… وساءت صحتها حتى توسل إليها ألا تعرض نفسها للخطر مرة أخري، ثم لاحت البشائر واعدة بتحقيق الأماني في المرة الثالثة فاستقر الحمل… وتكورت بطنها بحمل وسعدت به سعادة طاغية فدعا لها من قلبه بالسلامة في كل الأحوال.
ومضت معظم شهور الحمل وهي شبه راقدة دوما على ظهرها… وأمها وصديقاتها وجاراتها يتناوبن خدمتها بحماس… وهي توزع شكرها وعرفانها بسخاء… وبعد عودته من العمل، يخلص لخدمتها وحده ويتفرغ لرعايتها فيتلقى شكرها الباسم كل لحظة ويسمع وعدها المتكرر له بأن ترد له الجميل بعد الولادة… وإن تنذر نفسها لخدمته طوال العمر!
وبلغت شهرها الثامن وهي تزداد جمالا وشفافية، وجاءت أمها في الصباح ذات يوم لتبدأ نوبتها في الرعاية، فقبل زوجته وتلقي رجاءها التقليدي بألا تطول غيبته عنها، ثم خرج إلى العمل، ففوجئ بمديره يكلفه بالسفر فورا إلى فرع الهيئة بالإسماعيلية لمراجعة حساباته والعودة إليه بتقرير عاجل عنها في المساء. وحاول الاعتذار بأن حالة زوجته الصحية تستدعي وجوده بالقرب منها، لكن مديره أكد له أن المهمة لن تستغرق سوى ساعات. فتوجه إلى مهمته وعاد إلى مقر الهيئة في المساء فاستقبله المدير واجما، وتسلم تقريره بغير تعليق، ثم طلب منه باقتضاب أن يتوجه إلى المستشفى لأن زوجته قد فاجأها الوضع خلال غيابه!
وهرول إلى المستشفى منزعجا… وصعد درجات السلم إلى غرفة الولادة مهرولا فصدم بمرأى أم زوجته وصديقاتها وزوجة شقيقه يبكين في حرقة. ساعات ثقيلة مضت قبل أن يستوعب الحقيقة القاسية ويعي أن زوجته الجميلة قد ماتت وهي تضع حملها ويصدق أنها رحلت تاركة له طفلة غير مكتملة النمو… وإن الطفلة قد حجزت في الحضانة للاعتناء بها. وأيام أثقل مضت قبل أن يميز الأشياء… ويستعيد بعض قدرته على التركيز فيجيب سائله عن الاسم الذي يختاره لطفلته… بأنه يسميها (عتاب) كأنما يعاتب به الدنيا التي حرمته وحرمتها من أمها الحبيبة، وحتى هذا العزاء لم يدم طويلا، فلقد تدهورت صحة الصغيرة سريعا، وفشلت محاولات إنقاذها ولحقت بأمها الجميلة في السماء.
لو عاشت طفلته لبلغت عمر هذا الوليد الذي تحمله أمه التي يرى وجهها الوديع الآن بين كتفي هذين الرجلين… ولو طالت حياة أمها لحملتها على ذراعيها كما تحمل هذه السيدة طفلها وجلست في مواجهته باسمة تهز ذراعيها من حين لآخر وهي تتحدث إليه، لكن الأحلام القصيرة لا تطول، ولم يبق من عبق ذكراها سوي أنفاس شريكة العمر التي يسمعها تتردد إلى جواره وفي فراشه كل ليلة وهو يحاول النوم بلا جدوى وسوي رائحتها الجميلة التي يشمها في كل شبر من العش الخالي.
وبعد أن فشلت المهدئات المختلفة في مساعدته على اقتناص بضع ساعات من النوم معظم ليالي الشهور الماضية، نصحه طبيبه بأن يمشي على قدميه كل مساء لأطول فترة ممكنة لينهك جسده غاية الإنهاك. ويعود إلى بيته في الليل فينام كالقتيل، وتحير في البداية أين يمشي، ثم قادته قدماه بغير إرادة إلى نفس المحالّ التجارية التي كانا يتجولان فيها معا، فراح ينتقل بينها ويتشاغل بمشاهدة معروضاتها بذهن غائب، وكلما غلبه الإرهاق استراح قليلا في أول مقهى يصادفه… وأحتسي القهوة وأشعل سيجارته وبحثت عيناه دائما عن أسرة صغيرة من زوج شاب وزوجة جميلة وطفل صغير ليجلس بالقرب منها ويتأملها ويتسمع حديثها داعيا لها بقلبه بالسعادة واجتماع الشمل حتى نهاية العمر.
وأسرف في المشي واحتساء القهوة والتدخين، حتى أنذره الطبيب بأن صحته تسوء بدلا من أن تتحسن، ونصحه بالامتناع عن التدخين والاعتدال في شرب القهوة… لكن أني للقلب الحزين أن يستجيب لنصائح العقل المجردة؟
وأفاق من أفكاره على صوت حركة صادر من مائدة الأسرة التي يرقبها ورأي الزوجة الجميلة تنهض استعدادا لمغادرة المقهى وسمعها تعتذر شاكرة لأحد الرجلين الذي حاول أن يحمل عنها طفلها، ثم تحتضن الطفل وتسير في المقدمة فحزم أمره سريعا وقرر أن يتابع الأسرة السعيدة لبعض الوقت لعله يزداد ارتواء من وجهها الجميل الذي أعاد الحياة إلى وجه زوجته… فكأنما استعارته منها بعد الرحيل لتواصل به إمتاع العيون!
استدعي الدارسون بإشارة متعجلة… ومد يده إلى جيبه ليخرج النقود، فإذا بأسرة أخرى وزوجة وطفل صغير تدخل المقهى من اليسار وتتجه إلى مائدة أخرى قريبة… فتأمل وجه الزوجة الجديدة ذاهلا لشبهه الغريب بوجه زوجته… وراقبها باهتمام شديد وهي تضع طفلها على المائدة ريثما تصلح له ملابسه ثم تحمله مرة أخرى على صدرها فتراخت يده عن النقود في جيبه وثبتت عيناه على الوجه الحنون… وتراخي جسمه في مقعده… وهو يقول للجارسون الواقف أمامه منتظرا الحساب:
فنجان قهوة آخر… -من فضلك-!
بقلم : عبد الوهاب مطاوع
وهنا مجموعة رائِعة من القصص أيضًا: