الحب من المشاعر الإنسانية البالغة التعقيد، الذي يضم بين ثنايا معانيه المعنى والمعن النقيض، فهو قمة التضحية والإيثار وهو كذلك رأس الأنانية والأثرة، وهو ذلك الدافع الخطير الذي يغري بالعفو والسماح والتجاوز، وهو الذي يؤجج نيران الانتقام ويعزز قيم الثأر من جهة أخرى، وهو الذي يحرر الروح ويجعلها تسموا عن حدود الجسد ترتفع عن مستوى دونيته، وهو نفسه الذي يأسر القلوب يستعبدها ويفرض عليها سلطانا لا طاقة لها بدفعه، هو كل المتناقضات حين تجتمع في لحظة واحدة، هو الذي يمنحنا الشعور بالأمان وهو نفسه الذي يزرع أرواحنا بالخوف والهلع، حين يتعلق الأمر بمن نحب.
لأجل ذلك وأكثر استطاع الحب أن يحتل الأولوية الأولى على قائمة القضايا الفلسفية الهامة لدى الفلاسفة والمفكرين، واستطاع أن يخلق لهم من ذاته وكينونته الغامضة مادة ملائمة جدا للبحث والتنظير، وكل ما يقال في الحب هو محاولة للاقتراب من فهم هذا العمق الكبير في فكرة الحب، وأسبابه وسر هيمنته على القلوب بتلك الطريقة الأسطورية العجيبة.
وهنا سنقوم معا بمحاولة متواضعة لطرح فكرة الحب والنظر إليها من زاوية فلسفية بحتة، لنتعرف على رؤية الفلاسفة المفكرين لهذه الطاقة الشعورية الطاغية، وكيف استطاعوا تفسيرها إيجاد دفع منطقية لحدوثها وتأثيرها.
الاحتياج للحب
فلسفة الحب تقوم على فكرة الاحتياج الملح لوجود تلك المشاعر وتعاطيها، فالحب هو الوسيلة لإشباع حاجات متعددة نفسية ومعنوية وجسدية أيضا، والاحتياج للحب هو احتياج أساسي يولد مع الانسان ويختلف مظهره وجوهره باختلاف المرحلة العمرية والانفعال العاطفي ودرجة نضجه وثباته.
فالطفل الرضيع يحتاج إلى الحب واشباع الحب بالقدر الكافي يمثل عاملا هامًا من عوامل سعادته ونموه الجسدي والانفعالي، والذي يشبع عن طريق الأم واحتوائها للطفل، وبعد فترة الرضاعة ومع بداية تعلم الخطوات الأولى للمشي والكلام ومع محاولاته الأولى لإدراك الحياة من حوله، تزيد حاجته للحب والرعاية، وهكذا تتغير وتتجدد الحاجة للحب مع تغير المراحل.
الحب يستمد العمق الفلسفي من العجز عن فهمه
الحب هو ذلك العامل العظيم الأثر في حياة الانسان، وهو المصدر العجيب من مصادر الطاقة والإرادة، والفلاسفة والمفكرين والعامة والبسطاء يستطيعون أيضا لمس هذا الأثر وإدراك هذه الحقيقة، ولكن يظل الجزء الفلسفي المعقد في قضية الحب ينصب حول أسبابه وماهيته وصوره المتباينة والتي ليس لها ضابط محدد.
فبينما يرى بعض الفلاسفة أن الحب هو في أصله محض رغبة حيوانية، يرى البعض الآخر أنه ذلك السمو بالروح والنفس وهو البحث الحثيث عن الاكتمال، ويرى آخرون أن الحب هو جوهر الحياة وكينونتها والقوة المحركة لسكونها وركود أحداثها، وإنه سر التغيير وإنه الروح التي تسري في أوصال الحياة.
ويرى البعض أن محاولة التعرف على ماهية الحب وكينونته هي محاولة عبثية، لا توصل إلى شيء إذ يعتقدون أنه أعمق من الإحاطة وأشمل من أن يعبرون عنه بالكلمات أو يفسرون غموضه بالنظريات.
طبيعة الحب
أما طبيعة الحب وأسبابه فقد حازت على اهتمام الفلاسفة والمنظرين فقالو أنه يستمد طبيعته من طبيعة الكون اللامتناهي، وأنه يربط بين الرغبة التي يكللها الوصول إلى المرغوب، ويعتبرون أن أصالة الحب وسموه مستمد من بقائه وتجرده عن المصالح المادية والرغبات الدنيا، وواصلًا إلى الغايات السامية من حيث الجمال الروحي والتعلق القلبي بكل ما هو جميل وراقي ونبيل. فالحب سمو الروح وتحررها من قيود الجسد.
ويفسر ذلك الارتباط الذي يخلقه الحب بين المتحابين بأنه انسجام الأرواح وتعانقها بفضل الالتقاء في مساحة كبيرو من الأفكار المشتركة، والأرضية الصلبة التي تلتقي عندها القيم والمثل والثقافات، ولا يعكرها أو يشوهها تناقض العقول أو تباين الفكر.
وأخيرا أوجه دعوة مخلصة لك عزيزي القارئ أن تحرص على الاستمتاع بروعة الحب، ودخول جنته. والخضوع لمنطقه ما دام منطقا سويا وغير منحرف، دون أن تشغل نفسك كثيرا بفلسفته أو منطقته، فيكفينا أن نعيش الحب حتى وإن كنا لا نفهمه. فروعة الحب تكمن في غموضه وعدم القدرة على كشف أسراره.
رائع أن نعيش الحب بما فيه من الصراعات والتناقضات، وأن نبحث عن أفضل وسيلة يمكن أن تحقق لنا السعادة بانتصاراته والخروج بأقل الخسائر من معاركه، والقدرة على الاستمرار عند ما تسحقنا هزائمه وغدراته.
الحب أن تبقى مع من تحب تعيش التجربة حتى النهاية.