إنَّ كثيرًا من المسلمين قد اطَّلع فضل العمرة وثوابها الكبير الذي سِيقَ لنا عبر آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي المصطفى ﷺ. فهذه العبادة لها شأنٌ عظيم وفضلٌ كبير. وكفى بها فضلا وشرفًا أن الله استفتحها بأحب الأشياء إليه وأعظمها زلفى لديه، استفتحها الله بنداءٍ تُفَتَّح له أبواب السماء، نداء اشتمل على أعظم المعاني وأجلَّها وأكرمها وأطهرها وأقدسها، وهو توحيد الله -جل جلاله-.
هذا النداء الذي إذا نادى به العبد ربه فُتِّحَت له أبواب السماء ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.
هذا النداء الذي اشتمل على أحَب الأشياء إلى الله وأعظمها زلفى عند الله، وهو توحيده. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
واقرأ في سورة البقرة نداء الله -سبحانه- لعبادة الحجاج والمعتمرين ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾.
لبيك اللهم لبيك
كفى بالعمرة شرفا وفضلا أن الله -سبحانه وتعالى- شرعها، وجعل أوَّل ما يتلفظ به المعتمر القاصِد لربه والراجي لرحمته ورضوانه وعفوه ومغفرته أن يستفتحها بهذا النداء: لبيك.
لُب الشيء خالِصه الذي لا شائبة فيه. فأنت تقول: توحيدي وإخلاصي لك يا الله.
وقيل [لبيك] أنك مجيب لندائه إجابة بعد إجابة. لبَّى إذا أجاب النداء. فأنت تقول: أنا مجيب لندائك، إجابة بعد إجابة.
وقيل [لبيك] من قول العرب: داري تُلِبّ بدَارِك. إذا كانت تواجهها. فأنت تقول: اتجاهي وقصدي إليك.
ولذلك وَصَفَ الله المعتمرين بأنهم قاصدون ربهم، راجون رحمته؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾.
آمُّون البيت الحرام قاصِدون بيت الله، قاصِدون وجه الله. فاستفتحها الله بهذا النداء الذي يشتمل على توحيده وإفراده بالعبادة. وهو معنى لا إله إلا الله. الإثبات والنفي في: لا إله إلا الله.
لبيك اللهم: إثبات، لبيك لا شريك: نفي. وهُما الأساسان العظيمان اللذان قامت عليهما شهادة التوحيد.
ما أطيبها من كلمات طيبات مباركات إذا صَدحَت بها ألسِنة المؤمنين والمؤمنات. وكما في الحديث الصحيح ﴿ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا﴾.
إذا قُلت [لبيك] شهِدَت الأرض وشهِدَت السماء أنك ناديت ربَّك، وأنك أسلمت لله، وأنك أقبلت واتجهت إلى الله، وأنت مقبل على الله -سبحانه وتعالى-. ومن أقبَل على الله فُتِحَت في وجهه أبواب رحمته.
فضل العمرة وثوابها
ومن فضل العمرة أيضًا أن الله زكَّى أهلها -كما في الآية السابقة- ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾. شهِد الله لأن الحجاج والعُمَّار يتبتغون، يطلبون، فضلا من ربهم. ما سألوا غيره، ولا استغاثوا بأحدٍ سواه، ولا استجاروا بالأحجار ولا بالأشجار ولا بالقبور ولا بالأولياء ولا بالأضرِحة.. توجهوا إلى ربهم ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾.
زكَّاهُم -سبحانه- أنهم يبتغون ويطلبون. فهُم أهل الإيمان والتوحيد. صرفوا قلوبهم عن المخلوقين إلى رب المخلوقين. وصرفوا قلوبهم وقوالبهم عن كل شيء سوى الله، وقصدوا البيت الحرام.
آمين، قاصدين.. العرب تقول: أمَّ الشيء، إذا قصده.
يقول الشاعر الجاهلي المثقب العبدي:
وما أدري إذا يممتُ أرضا — أريد الخير أيهما يليني
الخير الذي أنا أبتغيه — أم الشر الذي هو يبتغيني
ويقول -أيضًا- الشاعر امرئ القيس: تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال.
فشهِد الله من فوق سبع سماوات أنهم آمُّون البيت الحرام. ما خرجوا من ديارهم ولا أوطانهم ولا أهليهم وأولادهم للأموال، ولا خرج للتجارات، ولا خرج للسياحة والنزهة. خرجوا لأمرين: يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.
يبتغون أعظَم ما يُبتغي.
- أما فضل الله فهو الشيء الزائِد، لأنه لا يستوجِب أحد على الله شيئا. فكل ما نحن فيه من النعم هي فضل من الله، والمِنَن كلها لله -سبحانه- وحده لا شريك له.
- أما الأمر الثاني فهو رضوان الله. وليس هناك شيء أعظم ولا أكبر من رضوان الله. وما أُعطيَ عبدٌ في الدنيا والآخرة شيئًا أعظم من أن يرضى الله عنه.
ولذلك قال -تعالى- في سورة التوبة ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَر﴾. قال الأئِمَّة: ورضوان من الله أكبر؛ أي أكبر من كل شيء، وأن رضوان الله أكبر من نعيم الجنة.
ولذلك؛ إذا نزل السعداء في الجنة ورأوا ما فيها من النعيم المقيم، اطلع الله عليهم فقال 〈أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا〉.
إذا رضي الله عن العبد أرضاه في دينه، ففتح عليه في الصلاح والاستقامة وحبه.
كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يأتي الصلاة متأخرًا، فيرضى الله عنه فيجعله يأتي إلى الصلاة قبل الأذان. كان يصلي في الصفوف المتأخرة، فيرضى عنه ربه فيُقدمه إلى أوائل الصفوف. كان يصلي مع المصلين ويخرج من المسجد وما يدري ما الذي قرأه الإمام؛ فيرضى الله عنه، فيفتح عليه ويعي كلامه ويتلذذ بكلام الله حتى أنه يتمنى أن الصلاة لا تُقضَى.
ما بين قلبٍ خاشع وعين دامعة من خشية الله -سبحانه وتعالى-.
فرضوان الله تُسْتدَر به الرحمات. وإذا تولى الله العبد أمَّنه من الخوف، وأذْهَب عنه همه وغمه، وكفاه وحماه ووقاه.
كم من معتمر خرج من بيته وهو أثقل ما يكون من ذنبه ووزره! خرج إلى الله وأقبل على الله بصِدق، أقبل وافِدًا على ربه؛ والوافد ضيفٌ على الله، والضيف له كرامة، فصدق مع الله فصدق الله معه.
فالله أعلم كم من معتمر غُفِرَت ذنوبه فعاد إلى بيته كيوم ولدته أمه. هذا أعظم الفضل، أن يُغْفَر ذنب الإنسان.
ومن فضل الله على العبد إذا اعتمر وصدق في عمرته أن يرزقه اليقين. فيرجع بقلب غير القلب الذي ذهب به لعمرته.
يرجع بقلب ممتلئ بالله -سبحانه وتعالى-، يستغنى بالله ويفتقِر إلى الله، قانِعا. فهو في غِنىً من الله -سبحانه وتعالى- حتى ولو كان لا يجد طعامه وشرابه.
فهذه نِعَم ومِنَن ومِنَح؛ الله أعلم كم من مهمومٍ فُرِّجَ هَمُّه، وكم من مغموم نُفِّسَ غمه وكربه.
لو أُذِن لأرض المطاف أن تتحدث بما قُضيَ عليها من الحاجات واستُجيب عندها من الدعوات وفُرِّجَ عندها من الكربات؛ وكم من قلوب من منكسرة خرجت من هناك مجبورة، وكم من مريضٍ شُفيَ من مرضه! فلا يعلم فضل الله في ذلك إلا ربك.
أخرج الله المعتمرين إلى فضل أرحم الرَّاحمين، وأخرج الله المعتمرين الصادقين إلى كرم أكرم الأكرمين -سبحانه وتعالى-.
فهذا الفضل والرضوان يدل على شرف هذه العبادة وفضلها، وأن العبد مخبوء له خير كثير في عمرته.
أنت تزور بيت الله. وما أعظم أن تكون هذه العمرة إذا كانت بالتضحية. فيخرج الإنسان من ماله ومن شغله -وهو أشد ما يكون مشغولا- لكي يتفرغ لزيارة بيت ربه. يحمل هموم الدنيا ويضعها هناك، فيرجع بفضل من الله ورضوان.
من أجلِك أيضًا هنا: الحج والعمرة خطوة بخطوة كأنك في الرحلة
أحاديث صحيحة في فضل العمرة
تمعَّن فيما ورد في فضل تكرار العمرة لأكثر من مرة مِما جاء في حديث صحيح للنبي ﷺ، ورد في صحيحي البخاري ومسلم، وفيه «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».
هل تسعى لفضلٍ أعظَم من هذا؟
وهناك أيضًا أحاديث في فضل العمرة ساقتها لنا كتب الأحاديث الصحيحة. فمن فضائِل العمرة كذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال «الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم».
فبيَّن -عليه الصلاة والسلام- ثلاث صفات في المُعتَمِر والحاج:
- الصفة الأولى أنهم وفدُ الله. وهذه كلمة عظيمة ووصف يتشرف به كل من قصد هذا البيت.
- وأما الصفة الثانية فأنهم أجابوا داعي الله؛ من خرج مجيبًا لداعِ الله فهو في كفالة الله وضمانه.
- وأما الصفة الثالثة فأخبر أنه -سبحانه- يغفر لهم ذنوبهم.
ولذلك، ينبغي للمسلم إذا اعتمر أن يكون صادقا الله في الإخلاص وحضور القلب والشعور. لأن أعظم الناس في هذه الفضائل وأحقهم بها من كان مخلصًا لله -عز وجل-، مستشعرًا لكونه من وفد الله، وكَوْن الله -عز وجل- يدعوه فيجيب؛ وذلك شُرِع له أن يقول [لبيك] أي إجابة بعد إجابة. وليس مرة واحدة، لأنك تخاطب ملك الملوك فتقول إجابة بعد إجابة.
ومن فضائلها التي جعلها الله فيها، أن العبد إذا خرج وهو وافِدٌ على الله؛ فإنه يُكْتَب له الأجر تامًّا كاملا. فمنذ أن أن يخرج من بيته ويفارق أهله وماله وولده، فإن الله يكتب حركاته وسكونه ونومه ويقظته وغربته، ويكتب كل ما أنفق من نفقة صغيرة أو كبيرة، وكل ما أصابه من نَصَب ووَصَب وتعب وهم وغم وسقم وألم ومرض؛ فإنه يُكْتَب له الأجر فيه كاملا.
فضل من مات في العمرة
نعم؛ فلو أنه قُبِضَت روحه فإنه يُبعَث يوم القيامة مُلبيا. ففي الصحيحين عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلا كان واقفًا مع النبي ﷺ بعرفة، فأقصعته راحلته، فمات. فقال «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا». فبمجرد أن سقط هذا الحاج الذي قصد بيت الله وقصد ربَّه؛ وقُبِضَت روحه، نزل جبريل من السماء بالوحي على رسول الأُمَّة، في ساعة شُغِل فيها رسول الأُمَّة بالدعاء، وهي ساعة عرفة. في ساعة العشي ينزل الوحي من السماء بشرف الموت في العمرة.
يُبعَث يوم القيامة وهو ينادي:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
ما يكون للإنسان من شيء في هذه العبادة إلا أُجِرَ عليه.
كان بعض العلماء إذا رجع من العمرة فأصابه الزكام أو مرض في طريقه قبل وصوله إلى بيته فرح واستبشر، وقال: الحمد لله إنها أصابتني بعد العبادة ولم تصِبني قبل العبادة، فتشغلني أو تبعدني عنها. والحمد لله أنها أصابتني قبل الوصول إلى بيتي لا بعد الوصول إلى بيتي. لأن الأجر يُكْتَب له تامًا كاملا.
ولا ينفق نفقة صغيرة ولا كبيرة؛ يهتم الإنسان ويغتم وهو ماضٍ إلى عمرته؛ تتعطل سيارته ويقف في الشمس، ويعاني من حَرّها وشدتها؛ وهو لا يدري أن الذنوب تُغفَر له، ولا يدري أن الحسنات تُكتَب له.
يقِف هو وأولاده؛ يعاني ويكابد، وهو لا يدري ما الذي يكتب في صحيفته.
هذا بعض من وصلنا إليه وما وردنا من فضل العمرة وثوابها؛ ولكِن الكثير من زال لا يعلمه إلا الله -سبحانه- عن مدى عِظَم ثواب وأجر تلك العبادة العظيمة. نسأله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا إليها وأن يتقبَّلها مِنَّا.