أعتقد أن مشكلة هذا الوطن أن أوضاعه تدفع مواطنيه للجنوح إلى التطرف بقطبيه التفريط والإفراط، فغياب العدالة الاجتماعية والتردي الاقتصادي قد يدفعان إما إلى اللجوء للفساد أو النقمة على هذا البلد، أما الأوضاع السياسية السائدة وحالة الانسداد في وسائل التعبير وموت سلطة القانون إكلينيكيًا، قد تدفع إلى ظهور حركات معارضة غير موضوعية يكن محور اعتراضها هو شخص الحكام لا نمط الحكم، أو الاستسلام للوضع القائم والتطلع إلى تغيير يأتي من السماء، وأيضًا إلى أن يسن كل شخص قانونه الخاص ويطبقه بنفسه طالما تمكن من ذلك.
كذلك ما يحدث في الشأن الطائفي، بما يراه البعض حالة من الاستقواء التي ينتهجها بعض رجال الكنيسة المصرية من جهة، والتشدد في الخطاب الإسلامي فيما يتعلق بحقوق المسيحيين المصريين لدى عدد من علماء الدين من جهة أخرى، كل ذلك يترك بلا شك تأثيره المباشر على الصورة الاجتماعية للمصريين كشعب واحد _بعنصريه المسلم والمسيحي_ يعيش في وطن واحد.
فيما يتعلق بنمط التعايش بين مسلمي مصر (نحو 94% من عدد السكان) ومسيحييها (6%)، بدأت العلاقة تأخذ شكلاً آخر يبتعد عن نمط التعايش وفكرة المواطنة ومدنية الدولة، ومؤخرًا تعرضت لموقف خشيت معه على نفسي من أن أفقد اعتدالي فيما يتعلق بعلاقتي مع شركاء الوطن من المسيحيين.
فتنة “الميكروباص”
حدث هذا في صبيحة ذلك اليوم وأنا ذاهب لمقر عملي كالمعتاد في رحلة تستغرق نحو ساعة و 50 دقيقة أقضي منها أكثر من ساعة وربع مستقلاً إحدى سيارات الميكروباص، وفي ذلك اليوم استقللت السيارة لأجد إحدى السيدات تتحدث في هاتفها المحمول بصوت مرتفع للغاية، وأثار انتباهي إلى ارتفاعه أكثر تلك الجملة التي اخترقت أذني “دول مجموعة من المحجبات المتخلفات”.. لم أهتم وظننت أن الأمر لا يتعدى خلافًا شخصيًا مع زملاءها أو جيرانها.. وفي كل الأحوال الأمر لا يعنيني.
واصلت السيدة حديثها في الهاتف وبوتيرة صوت متصاعدة، لأكثر من ربع الساعة، قبل أن تنهي المكالمة وتعاود مكالمة جديدة في الأغلب مع نفس الشخص وهو زوجها على مايبدو، وكانت محصلة المكالمات ما فهمت منه أنها سيدة مسيحية، حدث أنها وجدت ابنتها التلميذة في مرحلة الروضة بإحدى المدارس التجريبية، تردد الآذان وتطلب منها أن تستمع هي الأخرى بإنصات واحترام له، فظنت السيدة أن معلمة الطفلة هي من تلقنها ذلك مع تلميذات فصلها بالإجبار، وهو ما نفته ابنتها غير أنها لم تصدقها واعتبرت أنها تنفي خوفًا من بطش المعلمة.
فهمت كذلك من حديث السيدة في الهاتف، الذي اخترق أذني ولم أسترقه، أنها ذهبت للوم المعلمة ومديرتها، وتسللت سرًا إلى فصل التلاميذ لمراقبة مايحدث، ورغم نفي المعلمة إدارة المدرسة تلقين التلاميذ للآذان، لم تقتنع الأم وهددت باللجوء لإدارة التجريبيات وتصعيد الأمر.
إلى هنا قد تبدو الأمور منطقية، بل ومن حق السيدة تمامًا ما قالته، باستثناء بعض التجاوزات اللفظية في حق الإدارة والمعلمات “المحجبات المتخلفات” على حد وصفها، غير أن ما ألم يكن عاديًا ولم نعتد عليه في مصر واستفزني تمامًا، هو الحديث غير اللائق في مكالمة هاتفية أخرى أجرتها هذه السيدة مع شخص آخر.
طلبت السيدة من ذلك الشخص أن يذهب معها لإدارة المدارس التجريبية للاحتجاج والشكوى، في هذه المكالمة، قالت السيدة في وصف الآذان ألفاظ من قبيل: “مش عايزين نسمع الكلام بتاعهم ده، ده كلام فارغ وتخلف” مع فاصل من ضحكات السخرية، وهنا وجدت نقسي في قمة الاستفزاز، ليس من رأي السيدة، فربما هو رأيها الخاص وهي حرة أن تعتقد ذلك، ولكن ساءني مجاهرتها بهذه الإساءات في محيط تعلم جيدًا أن فيه مسلمين وربما أكثر الموجودين فيه.
هنا توجهت بحديثي لهذه السيدة، بمنتهى الهدوء، وطلبت منها ان تتحدث في هذه الآراء الشخصية والأمور الحساسة في مكان لا يؤذي مشاعري كمسلم، وفي مكان تتمتع هي فيه بخصوصية أعلى، ثم أخبرتها كذلك أن حديثها المتواصل في الهاتف يؤذيني كإنسان، لأن “الميكروباص” سيارة عامة ولي أيضًا حق استقلالها وسط أجواء مهيئة لرحلة طويلة.
لسنا أخوة
ثارت السيدة واعتبرت حديثي موجهًا إليها كمسيحية، وأنني “أصد عن كلمة الله” وهو التعبير الذي لم أعرف ما عنته به حتى الآن، وهنا ثارت مشكلة أكبر، أكثر من ثمانية من ركاب السيارة كانوا من المسيحيين، من بينهم السائق، وأربعة ضمنهم أنا من المسلمين، إنها نذر نموذج مصغر لفتنة طائفية داخل مجتمع سيارة ميكروباص، أو هكذا خشيت أن يكون الأمر.
تعالت الأصوات وتعددت التهديدات، ولكنها كانت من جانب واحد تقريبا، الجانب الأكثر عددًا، العدد الأكبر اعتبر ما قلته للسيدة من قبيل الاضطهاد الديني، والبعض الآخر اعتبر أنني مارست تضييقًا على حقها في الاسترسال في مكالماتها الهاتفية في مواصلة عامة، أما من حاول التدخل للتهدئة على اعتبار أننا في النهاية “أخوة” سارعت السيدة بنفي هذه العلاقة مؤكدة أننا “مش إخوات” وأني “شخص ليس له لزمة”، فكان الحل هو أن ترسو رحلة السيارة على أحد أكمنة الأمن العام الثابتة على الطريق ليفصل بيننا رجال الشرطة، كان ذلك بناءً على توصية من السائق والسيدة ووافق عليها الجميع، بما فيهم أنا، ربما التعامل مع الأمن أفضل من إراقة الدماء!
حاول ضابط الأمن تخويفنا تارة بأن “الموضوع هيتحول أمن دولة لو ما تصالحتوش”، طبعا والجميع يعلم ما سيحدث في أمن الدولة _مصالحة بقوة التهديد_ وتارة أخرى بمحاولة تهدئة الأوضاع على اعتبار أننا جميعًا أخوة _مرة أخرى رفضت السيدة التوصيف.
كانت المحصلة أننا امتثلنا للتهديد، واستكملنا الرحلة، وواصلت السيدة مكالماتها وواصلت ضحكاتها المستفزة والسخرية من شخصي في حديث مع نفسها مرة ومع من يجاورها مرة وفي الهاتف مرات كثيرة، وذلك قبل أن تشرع في تشغيل ترانيم دينية مسيحية بأعلى صوت في جهازها المحمول.
بعد أن أقسم لكم أني صادق تماما في كل حرف رويته، أتابع انه استفزتني جدا شكل العلاقة التي عليها بعض مسلمي مصر ومسيحييها الآن، والذي يلخصها نموذج “الميكروباص” وهي العلاقة التي أنتجتها غياب وجود قوي ومؤثر للدولة وأجهزتها، ومحاولة أطراف ما الاستفادة من رخاوة الدولة لفرض أمرًا واقعًا، انعكس بالضرورة على المشهد الاجتماعي المصري.
سأتفق الآن مع هذه السيدة.. لسنا أخوة.. فأخوة بهذا التوصيف أخوة كاذبة.. وسلوكيات من هذا القبيل قد تدفع المعتدلين أن يفقدوا اعتدالهم.. وراقبوا كيف صار خطاب المعتدلون على الطرفين أخيرًا.
بقلم: هشام عبد العزيز
⇐ واقرأ أيضًا إن أردت: